الرئيسية 08 الشبكة الاسلامية 08 الحبيب المصطفى 08 محطات الشورى في حياة النبي ﷺ

محطات الشورى في حياة النبي ﷺ

تحتل الشورى منزلة رفيعة وسامية في الإسلام؛ لما لها من قيمة عالية وأهمية بالغة؛ فهي متدخلة في كل مجالات الحياة وشؤونها، وليس المجال السياسي فحسب، كما قد يتبادر إلى الأذهان، وغيابها يصيب المجتمع بالفساد.

ومن جلالتها سُمِّيت سورة باسمها، وهي سورة «الشورى»، التي نزلت في العهد المكي تأكيدًا لأهميتها في المجتمع المسلم الناشئ.

ومعنى ذلك أن الشورى مكوِّن أساس من مكونات النظام الإسلامي بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

يقول ابن عطية المفسر: «الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام«(1).

وقد ذهب القاضي ابن العربي المالكي إلى أبعد من ذلك فقال: «المشاورة أصل الدين، وسُنة الله في العالمين، وهو حق على عامة الخليقة من الرسول إلى أقل خلق بعده في درجاتهم، وهي اجتماع على أمر يشير كل واحد برأيه»(2).

الشورى في حياة النبي المصطفى

كان النبي المصطفى أكمل الخلق عقلاً ورأيًا، لكننا وجدناه قد استشار أصحابه فيما لم ينزل عليه فيه وحي، ومن قبلها أمره ربه جلَّ وعلا بذلك، وقد حاول العلماء تعليل ذلك فقال ابن الجوزي: «اختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه، مع كونه كامل الرأي، تام التدبير على ثلاثة أقوال:

أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة.

والثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق، ومقاتل.

وقيل: للإعلام ببركة المشاورة، قاله الضحاك»(3).

وطلب النبي ﷺ الاستشارة من أصحابه هل كانت واجبة عليه؟

قال الإمام النووي: «الصحيح عندهم وجوبها، وهو المختار؛ قال الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159).

والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحققو أهل الأصول أن الأمر للوجوب»(4).

ولأجل ما سبق فإنه ﷺ كان يشاور أصحابه في كل نازلة أو عارض كالحروب ونحوها؛ فقد استشار الصحابة مثلاً في غزوة «بدر» وحدها أربع مرات:

1- شاورهم في الخروج إلى عير قريش.

2- وشاورهم لمَّا علم بخروج قريش لقتاله.

3- وشاورهم في المنزل يوم «بدر» ونزل على رأي الحباب بن المنذر.

4- وشاورهم في أسارى «بدر» ونزل على رأي غالبية الصحابة.

وهذا عرض وسرد لإحدى الاستشارات بين النبي ﷺ والصحابة في غزوة «بدر»؛ فقد جاء في سيرة ابن هشام أن رسول الله ﷺ قال: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، وإنما يريد الأنصار؛ وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.

فكان رسول الله ﷺ يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.

فلما قال ذلك رسول الله ﷺ قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟

قال: «أجل».

قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنَّا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.

فسُر رسول الله ﷺ بقول سعد، ونشَّطه ذلك.

ثم قال: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم»(5).

وشاور ﷺ أصحابه في الخروج إلى «أُحد» لقتال قريش، وكان ﷺ قد كره الخروج ورأى الإقامة بالمدينة؛ فقال: «إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها».

وكان رأي عبد الله بن أُبي بن سلول مع رأي رسول الله ﷺ، يرى رأيه في ذلك، وألا يخرج إليهم.

فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم «أحد» وغيره ممن كان فاته «بدر»: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنَّا عنهم وضعفنا.

فقال عبدالله بن أُبي بن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا.

فلم يزل الناس برسول الله ﷺ الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله ﷺ بيته، فلبس لأمته.

وقد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول الله ﷺ، ولم يكن لنا ذلك.

فلما خرج عليهم رسول الله ﷺ، قالوا: يا رسول الله، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك.

فقال رسول الله ﷺ: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل».

فخرج رسول الله ﷺ في ألف من أصحابهِ(6).

ولما كان ما كان من أمر انكسار المسلمين ووقوع العديد من الشهداء لم يهاجم ﷺ من كانوا سببًا في دفعه للخروج، ولم يترك الشورى فيما جاء بعد ذلك من النوازل والأحداث.

وشاور أصحابه في غزوة «الخندق» مرتين:

الأولى: في كف كيد الأحزاب، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فحفره.

والثانية: استشارهم في مصالحة المشركين على ثلث ثمار المدينة ويرجعون، فأبى المسلمون إلا قتالهم.

يقول الشيخ شلتوت: «وهذه الحادثة تضع تقليدًا دستوريًّا مهمًّا للمسلمين؛ هو أن الحاكم -ولو كان رسولاً معصومًا- يجب عليه ألا يستبد بأمر المسلمين، ولا أن يقطع برأي في شأن مهم، ولا أن يعقد معاهدة تلزم المسلمين بأي التزام دون مشورتهم وأخذ آرائهم، فإذا فعل ذلك كان للأمة حق إلغاء كل ما استبد به من دونهم، وتمزيق كل معاهدة لم يكن لهم رأي فيها»(7).

وشاور أصحابه عام «الحديبية»، وشاورهم في حصار الطائف حين أراد فض الحصار فرفض الصحابة بداية، ونزل النبي ﷺ على رأيهم حتى طلبوا هم الرحيل.

وفي تلك الداهية التي عرضت للنبي ﷺ كان يقول: «أشيروا عليَّ في أناس أَبَنُوا -أي: اتهموا- أهلي»(8)، وذلك في حادثة الإفك التي اهتز لها المجتمع المسلم بأكمله، وماجت فيه المدينة بالفتنة.

هذه الأمثلة وغيرها تؤكد أن الشورى لم تكن أمرًا ثانويًّا في حياة النبي ﷺ، بل هي منهج حياة أرساها النبي ﷺ لتسير الأمة عليه من بعده، ولتعلم أن الشورى بركة، وتركها بلاء وشر مستطير على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول.

 

 

 

______________________

(1) تفسير ابن عطية، (1/ 534).

(2) بدائع السلك في طبائع الملك، (1/ 302)، والموسوعة الفقهية الكويتية، (45/ 148).

(3) زاد المسير، (1/ 488) باختصار.

(4) شرح النووي على مسلم، (4/ 76) باختصار.

(5) سيرة ابن هشام، (1/ 615).

(6) السابق، (2/ 63) باختصار.

(7) الشيخ شلتوت: من توجيهات الإسلام، ص 454.

(8) أخرجه البخاري.

محمد فتحى النادي

About Author

%d مدونون معجبون بهذه: