الثقافة مجموعة من المعتقدات والإجراءات والمعارف التي يتمّ تكوينها ومشاركتها ضمن فئة معينة استناداً إلى الدين والتراث والعادات والقيم السائدة في المجتمع، والثقافة التي يكوّنها أيّ شخص يكون لها تأثير قوي ومهم على سلوكه، وتدلّ الثقافة على مجموعة من السمات التي تميّز أيّ مجتمع عن غيره، منها: الفنون، والموسيقى التي تشتهر بها، والدين، والأعراف، والعادات والتقاليد السائدة، والقيم.. وغيرها.
ومن هنا نجد أن الثقافة وسيلة قوية وفعّالة في تعزيز الصمود والمقاومة لدى أفراد المجتمع عند مواجهة التحديات العامة التي تواجههم، وذلك من خلال تعزيز الهوية، أو نقل القصص التاريخية، أو تقديم أطر فكرية للتعامل مع هذه التحديات، وهي بذلك تعتبر أداة مهمة لدعم المجتمع وتوحيده في وجه التحديات، كما تساهم في تعزيز الوعي الجمعي، والروح الوطنية، والتضامن الاجتماعي.
وتؤدي الثقافة دوراً محورياً في بناء قدرة المجتمعات على الصمود، ليس فقط على المستوى الفردي، ولكن على المستوى الجماعي أيضاً، وفيما يلي أبرز أدوار الثقافة في هذا السياق:
– تعزيز الهوية الوطنية:
تساهم الثقافة في تعزيز الهوية الوطنية للشعوب، وتعمل على ترسيخ الانتماء إلى الأرض والتراث، وعندما يظل الشعب متمسكاً بثقافته وتقاليده، فإن ذلك يعزز قدرته على مقاومة محاولات التذويب أو التأثير الخارجي، ومن خلال توظيف الأدوات الثقافية المختلفة من الفن بمختلف صوره إلى الدروس العامة والخطب والمنبرية؛ يصبح الشعب قادراً على الحفاظ على ذاكرته الجماعية؛ ما يزيد من إصراره على المقاومة ضد أي محاولات للمحو أو التفكيك الثقافي، وكلما تم توظيف هذه الأدوات باحترافية وتركيز؛ كان التأثير جلياً في صمود الشعب أمام هذه التحديات.
الثقافة تساهم في تعزيز الهوية الوطنية للشعوب وتعمل على ترسيخ الانتماء إلى الأرض والتراث
وفي غزة الصامدة الصابرة أكبر مثال على ذلك، فتحولت مختلف أدوات الثقافة نحو غاية واحدة وهي الصمود، فنجد الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي قد سخَّروا إمكاناتهم ومهاراتهم لتعزيز الهوية الوطنية لمواجهة الاحتلال الصهيوني، وتحولت المساجد (المصليات بعد هدم المساجد) إلى محاضن اجتماعية تعزز الانتماء والمقاومة، وتحركت جميع مؤسسات المجتمع المدني على اختلاف تخصصاتها إلى خلايا نشطة تثبت الناس وتنقل المعاناة إلى العالم ليقوم بدوره المأمول؛ لذا نجد أن الكثير من محاولات الصهاينة في تجنيد عملاء لهم تفشل أمام تفشي ثقافة المقاومة والصمود بين أفراد الشعب في غزة.
ولم يقتصر الأمر على الناشطين في غزة، بل تعداه ليشمل أبناء الأمة الإسلامية، بل وأحرار العالم، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية وخلفياتهم الفكرية والثقافية، والثقافة بذلك تنتج خطاباً مقاوماً من خلال الشعر والفن والمسرح، والسينما التي تركز على التحديات والمقاومة، فالأعمال الفنية التي تُنتج في فترات التحديات يمكن أن تساهم في إشعال حماسة الجموع ورفع معنوياتهم، وتعزيز هويتهم الوطنية.
– نقل القصص والموروث التاريخي التي تعزز الصمود:
تساهم الثقافة في نقل القصص التاريخية للمجتمعات، سواء عبر الأساطير الشعبية أو القصص التاريخية الحية، هذه القصص تُعزز الوعي المجتمعي حول أهمية الكفاح والصمود في مواجهة الظلم والاحتلال، ونحن كمسلمين لسنا بحاجة لأساطير خيالية لتكون ملهمة للثبات والصمود، فتاريخنا الإسلامي ابتداء من عهد النبي صلى الله عليه وسلم زاخر بالقصص والنماذج الحقيقية الملهمة لأفراد المجتمع للتمسك بالحق وتأكيد معاني الثبات والتضحية والبذل، وكذلك فإن القصص القرآني مليء بهذه المعاني من خلال قصص الأنبياء وغيرها من القصص المليئة بالدروس والعبر، المؤكدة دائماً على أن العاقبة للمتقين.
.. وفي نقل القصص التاريخية التي تُعزز الوعي المجتمعي حول أهمية الكفاح في مواجهة الظلم
وفي ذات السياق، تبرز الأمثال الشعبية والأدب الروائي والشعبي لتؤدي دوراً في تذكير الأجيال الجديدة بقوة المقاومة والصبر في تاريخهم، وقد ذكر الكاتب عباس خضر، في كتابه القيم «أدب المقاومة»، أن بعض علماء الإسلام في زمن الحروب الصليبية ممن عجزوا عن حمل السيوف والقتال عوضوا ذلك بجهاد فكري؛ فاتخذوا من التأليف ميداناً للكفاح، فردوا على أعداء الإسلام، وألفوا كتباً كثيرة في فضائل الشام والقدس والمسجد الأقصى، واتخذ المؤلفون من تاريخ أبطال الإسلام الأوائل مجالاً لبث روح الحماسة والتحريض على الجهاد، وظهرت كتب كثيرة في السياسة والتاريخ وتدبير شؤون الرعية وفنون الحرب ونحو ذلك من مؤلفات.
– تقوية الروح الجماعية:
إن تعزيز الوعي الجمعي يساهم في تحفيز الناس على مواصلة المقاومة وعدم الاستسلام للضغوطات، وتساهم الثقافة في بناء الروح الجماعية وتوحيد المجتمع لمواجهة التحديات، فعندما يتشارك الأفراد في الاحتفالات الثقافية، والمهرجانات العامة، والأنشطة الاجتماعية، يتحقق نوع من التكاتف الاجتماعي الذي يُعزز من قدرتهم على الصمود في وجه الصعاب، وعبر هذه الأنشطة تتعاظم الروح المعنوية لتنقل المشاركين فيها من دائرة التعاطف إلى دائرة المشاركة والتأثير، فيتم تعزيز التعاون والتعاضد بين الأفراد والجماعات، وتحقق روح حديث النبي صلى الله عليه وسلم القائل: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً..» (رواه البخاري).
– تعزيز الإبداع والابتكار:
تساهم الثقافة في تنمية الإبداع والابتكار كأداة لمواجهة التحديات في الأوقات العصيبة، ويُمكن للثقافة أن تكون مصدراً لتطوير حلول مبتكرة لمشكلات المجتمع، ومن ذلك الإبداع في مواجهة التطبيع ومقاطعة منتجات العدو وداعميه، فبالنظر إلى أخطار تفشي ثقافة التطبيع، ودور الإعلام في التمكين لها وتمرير مغالطاتها، يتعين تعزيز ثقافة المقاومة، وجعلها أولوية في التدافع الثقافي والسياسي المناصر لقضية العرب والمسلمين وأحرار العالم.
انطلاقاً من ذلك يتعين التأكيد على ما يلي:
– اعتبار المعركة الثقافية، وخاصة عبر الإعلام الجديد اليوم، أهمَّ الأولويات، وجزءاً لا يتجزأ من المقاومة.
– أن توجه المعركة الثقافية من خلال الإعلام بجميع أشكاله لخدمة ثقافة المقاومة والصمود، مع ما يعنيه ذلك من تصحيح المفاهيم والتصورات، والتصدي للمرجفين والمتخاذلين والمثبطين.
– بناء وتعزيز الإيمان بعدالة قضية المقاومة، والصمود والصبر على تكاليفها وتبعاتها رغم حجم الابتلاء، مع الثقة في موعود الله.
.. وفي تنمية الإبداع كأداة لمواجهة التحديات في الأوقات العصيبة وتطوير حلول مبتكرة للمشكلات
– الدعم غير المشروط للمقاومة، والانخراط الفاعل في جميع الأنشطة الداعمة لها، وهو الدور الذي كان يقوم به القرآن وآياته التي كانت تتنزل بالتوجيه للثبات والصبر، والتذكير بسنن التدافع، وفضح المنافقين ومخططات المرجفين، وذلك يقتضي جعل المقاومة الثقافية في مقدمة الأولويات، والإسهام في المعركة الثقافية والإعلامية من خلال الانحياز الواضح لعدالة القضية الفلسطينية، وبذل الجهد في جميع المنصات الإعلامية لتحقيق ذلك.
– بث فكرة أن النصر الحقيقي هو الانتصار في الثبات والصمود، وأن النتائج مضمونة وإن لم تكن في زماننا، وأن العاقبة للمتقين، فكم استشهد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي ولم يروا ظهور الإسلام.
– تعزيز حركة التأليف واستثمار أدوات الثقافة المختلفة من أدب وفن لنشر فكرة الصمود والثبات والجهاد لتحقيق الحق وإزهاق الباطل.
د. إبراهيم أحمد مهنا