الرئيسية 08 الشبكة الاسلامية 08 تاريخ حضارة 08 العوامل والأسباب التي أدت بـ «صلاح الدين الأيوبي» لقهر الصليبيين وتحرير بيت المقدس

العوامل والأسباب التي أدت بـ «صلاح الدين الأيوبي» لقهر الصليبيين وتحرير بيت المقدس

لقد كان البطل القائد العظيم “صلاح الدين الأيوبي” بطل عصره بلا مُنازع، وفريد زمانه بلا مُنافس، تخشى السلاطين والملوك والأمراء صولته وسلطانه، فلقد كان فارسا مِغوارا من طينة الكبار، قاهر الصليبيين الأشرار، ومُحرر القدس من فوق الأسوار، ومُوَحِّد شتى الأقطار، شاءت له الأقدار أن يكون من بين الأبطال الأحرار الذين عجزت النساء عن إنجابهم من جديد بعد تِكرار ومِرار…!! ولقد صدق أحد المؤلفين والمؤرخين عندما وصف “صلاح الدين الأيوبي”، بأنه بطلٌ بَدْريّ تأخر موعده عن عصر النبوّة حتى جاد به الزمن في عصر الحروب الصليبية، ليؤدي دور أبطال بَدر حين ثبتوا للعدوان الغاشم، إذ جاءهم من بلاد الشرك ليستأصل وجودهم، فحباهم الله بنصرٍ من عنده، وردّ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا…!!.

 

مولده ونشأته
شاءت الأقدار العظيمة أن يكون مولد البطل العظيم “صلاح الدين الأيوبي” في الليلة ما قبل الأخيرة لِوجود والده “نجم الدين أيوب” في قلعة “تكريت”. وكان مولده سنة 532 هجري، المُوافق لسنة 1137م، من عائلة كُردية، وبعد ليلةٍ واحدة من ولادته أخذه والده في رحلة شاقة إلى “الموصل” بِرفقة أمه وعمه “أسد الدين شيركوه” وأحد الحُراس الذي أبى إلا أن يمضي مع قائده “أيوب” في تلك الرحلة المجهولة إلى “الموصل”، وذلك بسبب أزمة سياسية بين “نجم الدين أيوب” حاكم “تكريت” والخلافة العباسية في “بغداد”.
كانت رحلة شاقة، ومع ذلك تحملها المولود الملفوف بجلد الأسود الذي لفه به والده “نجم الدين”… وكأن القدر كان يُشير إلى أن الطفل الذي يمضي ليلته الثانية في الحياة، فوق صهوة جواد، سيصبح ظهر الجواد بالنسبة له هو ظهر الأرض ولِسنواتٍ طويلة…!!.
ووصلت القافلة الصغيرة إلى “الموصل”، واستقبلهم واليها “عماد الدين زنكي”، أحسن وأكرم استقبال، وأقطع “نجم الدين” و”شيركوه” إقطاعات كثيرة… قضى الطفل “صلاح الدين”، عاميْن في “الموصل”، ثم انتقل مع والده إلى “بعلبك” سنة 534 هجري، وظل في رِحاب تلك القلعة، حتى بلغ التاسعة من العمر.
لقد نشأ “صلاح الدين الأيوبي” نشأةً إسلامية مُتديّنة، فهو مؤمن مُتعبد، ونشأ كذلك نشأةً رياضية، ففي طفولته تمرن ركوب الخيل، والرمي بالقوس، والضرب بالسيف، ولما اقترب من سن العشرين أصبح مثلا يُمثل نموذجا من نماذج الفروسية الإسلامية النبيلة، التي تعف عن الدنايا، وتترفع عن الضمائر، ومن هنا قال التاريخ: إن أبناء الغرب قد تعلموا من “صلاح الدين الأيوبي” -عندما أصبح قائدا خلال الحروب الصليبية- وقومه نظم الفُروسية الداعية إلى العفو والتسامح والرفق، والمشاعر الرقيقة، والعواطف النبيلة، حتى إن نظام “فُرسان المَعبد” الذي ظهر في الغرب بدأ عقب هذا التعلم وذلك الاتصال…!!.
نشأ “صلاح الدين الأيوبي” مُهتما بدراسة التاريخ، وخاصةً تاريخ الإسلام المجيد من عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى عصره، بما يحويه من بطولات وسجايا، فامتزجت فيه أحسن صفات الشرق الإسلامي والغرب النصراني في ذلك الوقت؛ مُغرما بقراءة سيّر العظماء والأبطال خاصة منهم المسلمين، أمثال: “خالد بن الوليد”، و”عقبة بن نافع”، وطارق بن زياد”، وغيرهم من الأبطال المسلمين الأفذاذ. فلقد لمحَ فيهم صورة من نفسه، رأى فيهم قُوة النفس، وصحة العزم، وسرعة التنفيذ بعد إحكام الخُطة وعدم التردد.
وكخُلاصة عامة مما تقدم فإن “صلاح الدين الأيوبي” نشأ في السنين الأولى من طفولته، وفي العقد الثاني والثالث من شبابه على الفضائل الكريمة، والخِصال الحميدة، واكتسب في مُجالسته للأمراء، ومن مُصاحبته للقادة العادات الأصيلة، والمهارات الحربية، والغيرة الإسلامية، والشجاعة المادية والأدبية، وهذا ما أهله باستحقاق وجدارة لأن يكون من الشخصيات الفذة التي هزت الدنيا وساهمت في صناعة حقبة هامة من التاريخ الإسلامي العظيم.
بعد وفاة البطل الشهيد “عماد الدين زنكي” سنة 1146م، ترك لابنه “نور الدين زنكي” أمر إتمام ما بدأه من عملٍ يرمي به إلى توحيد الجبهة الإسلامية وطرد الصليبيين، واستطاع السلطان الجديد “نور الدين زنكي” من ضمِّ “دمشق” إلى مملكته وذلك سنة 549 هجري، المُوافق لسنة 1154م، واتخذها عاصمةً لمملكته، وعيّنَ “نجم الدين” حاكما عاما، و”شيركوه” نائبا عنه، وبذلك أُتيحَ للأسرة الكردية أن تأخذ مكانتها في القيادة الإسلامية، وهكذا أصبح لـ”صلاح الدين” أبًا وعمًّا نافذا الكلمة في “دمشق”.
وكان لِصفات وأخلاق “صلاح الدين الأيوبي” الحميدة، والمُتميّزة، ولِكفاءاته العالية الأثر الكبير على من حوله، فرأى السلطان “نور الدين زنكي” أن يُنصِّبه رئيسا للشرطة بـ”دمشق”، أي أن “صلاح الدين” أصبح المسؤول الأول على الأمن الداخلي في “دمشق”. وقد أدى واجبه في هذا المنصب أحسن أداء، واستطاع أن يُطهّر “دمشق” من عبث اللصوص ومن شرور المُفسدين، فأعاد الأمن والاستقرار في ربوع الشام.

دخوله “مصر” والتربع على عرشها
في سنة 559 هجري، قرر السلطان “نور الدين زنكي” أن يرسل جيشا إلى “مصر” لنجدتها من الصليبيين، فاختار “أسد الدين شيركوه” قائدا للجيش، وأن يكون ابن أخيه “صلاح الدين” نائبا له، الذي لم يكن قد تجاوز السابعة والعشرين من العمر في ذلك الوقت، غير أن هذه الحملة العسكرية الأولى على “مصر” فشلت في الدخول إليها، وحتى الحملة الثانية كان مصيرها كالأولى. ولم يتمّ الدخول إليها إلا في الحملة الثالثة وذلك في بداية سنة 564 هجري.
وتقلد “شيركوه” الوزارة في “مصر”، وجعل ابن أخيه “صلاح الدين” يُباشر كل الأمور، غير أن “شيركوه” لم يلبث أن قضى نحبه في 23 مارس سنة 1169م، ولم تتجاوز مدة وزارته شهريْن. فلم يسع الخليفة الفاطمي “العاضد” إلا أن يعهد بالوزارة إلى “صلاح الدين” الذي لم يتجاوز وقتذاك الثانية والثلاثين من عمره، ومنحه لقب “الملك المنصور”، وأصدر منشورا بذلك. وتعتبر تولية “صلاح الدين” في هذا المنصب الذي أدى التشاحن عليه، إلى تدخل “نور الدين زنكي” وتوطيد مركزه في “مصر”، أمرا بالغ الأهمية. إذ أن “صلاح الدين” عمدَ إلى تطهير الحكومة من الفساد، فأمر بعزلِ عدد كبير من الموظفين، وشرعَ في تدبير أموره في شيء من الحذر والروية.
فلإعادة المذهب السُّني إلى “مصر”، لابد من “صلاح الدين” أن يترقب الفُرصة الملائمة لذلك، كما أنه في الوقت ذاته، كان حريصا على رضى “نور الدين”، وعلى الاحتفاظ بمكانته ووضعه في “مصر”، فأمر بذكر اسم “نور الدين” في خطبة الجمعة، وذلك بعد اسم الخليفة الفاطمي.
ولهذا الإجراء أهمية، إذ أنه يدل على أن أيام الأسرة الفاطمية باتت معدودة؛ وبالفعل ففي سنة 1171م، المُوافق لسنة 567 هجري، تُوفي الخليفة الفاطمي “العاضد”، وأصبح الملك الناصر “صلاح الدين الأيوبي” هو الحاكم لـ”مصر” تحت إمرة “نور الدين” في “دمشق”، وبذلك سقطت الدولة الفاطمية في “مصر”. وترتب على ذلك أن عاد المذهب السُّني إلى “مصر”، وخضعت البلاد من الناحية الروحية للخليفة العباسي بـ”بغداد”. وهكذا بدأ عهدٌ جديد استتب فيه الأمر للملك الناصر، وراحت ظِلال العدل تنتشر فوق “مصر”، وبدأ منذ ذلك التاريخ عهد “صلاح الدين” في حُكم “مصر” والتمهيد لِتحرير بيت المقدس، وتطهير كُل ما دَنَّسه الصليبيون.

توحيد الشام ومصر تحت مملكة ” صلاح الدين”
ثم تتسارع الأحداث في الشرق الأوسط، ويتوفى البطل المثالي “نور الدين زنكي” سنة 1173م، المُوافق لسنة 569 هجري، فوُقوع الانقسام والفِتنة إثر موته في صفوف الأمراء والقادة، مِما أدى إلى تدخل “صلاح الدين”، فسار بجيشه إلى “دمشق”، ولم يكد يستقر بها حتى استخلف أخاه عليها، وسار إلى “حمص” وتسلَّمها أيضا، وإلى “حماة” فتسلَّمها كذلك، ثم مضى بنفسه إلى “حلب” فحاصرها، وهكذا قامت الدولة الأيوبية على أراضي “مصر” و”بلاد الشام” بزعامة القائد البطل “صلاح الدين الأيوبي”، وبعد ذلك أرسل “صلاح الدين” إلى الخليفة العباسي رسولا يحمل رسالة يُعدد فيها ما كان له من مَساعٍ في خدمة الدولة العباسية، ومن جهادٍ ضد العدو، فأجابه الخليفة العباسي “المُستضيء” إلى مُلتمسه وأذن له في كل ما طلب، وهو تقليدُ جامع ولاية “مصر” و”المغرب” و”اليمن” و”الشام”، وكل ما تشتمل عليه الولاية النُّورية، وقد اعترف لـ”صلاح الدين” بالولاء جميع المسلمين، وانهالت عليه النّجدات من كل صَوبٍ، وغَدا السيّد المُطاع يجمع “سوريا” و”مصر” و”اليمن” و”إفريقيا”، وهكذا استطاع “صلاح الدين” بفضل سياسته المُحنّكة من تثبيت جُذور دولته الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وجُزء من المغرب العربي، ثم حاربَ بعض الأمراء الذين لم يعترفوا له بولايته، ووحَّد البلاد جميعها تحت رايةٍ واحدة، في ظل حُكمٍ واحد، راية الإسلام والعُروبة والحق، وراية الجهاد لاستنقاذ الوطن المَسلوب.

استعداداته المُكثفة لتحرير بيت المقدس
على أنه ينبغي ألا يغيب عن تفكيرنا، أن “صلاح الدين” لم يغفل أمر الصليبيين أثناء انصرافه إلى توحيد الأمة الإسلامية في يدٍ واحدة، حيث كان يتتبع باهتمامٍ كبير تحركاتهم، ويستطلع في سريةٍ كاملة -عن طريق عيونه- داخل الكيان الصليبي مؤامرات وتطلعات العدو، فلما أكمل توحيد الصف الإسلامي، بسقوط قلعة “حلب” في يده سنة 570 هجري، بسط ظلال حُكمه على بلاد الشام كلها، واكتملت قُوة النسر العربي، الذي فردَ جناحا على “مصر”، وجناحا على “الشام”، وكان عليه أن يزرع منقاره في صدرِ الصليبيين، فقرر “صلاح الدين” الجهاد المُقدس لتحرير “بيت المقدس”، وجميع الأراضي الأخرى التي تمّ احتلالها بالقُوة من طرف الصليبيين.
ولعلّ القارئ الكريم لا يعلم أن “صلاح الدين” هو أول من وضع مُخطط إرهاق العدو، أو ما يُعرف اليوم بحرب الاستنزاف، في مجال التطبيقي العملي ضد الصليبيين، حيث كان ينقضُّ عليهم انقضاض الصقر على فريسته، فيقتل من يقتل منهم، ويُدمر قِلاعهم، ويأخذ منهم الأسرى، ثم يعود، وكان يعتمد دائما على عُنصر مُفاجئتهم، وأن يكون زِمام المُبادرة دائما بيده، فلم تكن تترك هذه الغارات للصليبيين مجالا للاستقرار أو السلام. ثم راحَ يرسل الفدائيين من جنوده، في مهماتٍ خاصة، تشبه مهمات الكومندوس أو ما نُسميه اليوم بِفرق الصاعقة الفدائية، كانت مهمات أولئك الجنود، هي: حرق مَحاصيل العدو من مُعدات عسكرية، ومَحاصيل غذائية لِاستنزاف العدو من جميع ما يملك.
وكان لا يهدأُ له بال، ولا يستقر في مكانٍ واحد، بل كان كثير التنقل فوق صهوة جواده، فمن حصن إلى حصن راحَ ينتقل، ومن «دمشق» إلى «القاهرة»، ومن «القاهرة» إلى «دمشق». وكان كل غرض القائد البطل العظيم من وراء تلك الغارات والرحلات، هو التمهيد للضربة الكبرى ضد الصليبيين، وإصابته بهزيمةٍ ساحقة. فالغارات كانت من أجل إنهاك الصليبيين، والرحلات بين «القاهرة» و»دمشق» و»حلب»، كانت من أجل الإعداد والتنظيم، وتعبئة الجماهير نفسيا، للمعركة المصيرية المُقبلة، وهكذا بدأ السلطان الناصر «صلاح الدين الأيوبي»، يضع خُطة موقعة «حطين».

واستهل «صلاح الدين» استعداداته لطرد الصليبيين من المشرق العربي، بإرساله الكُتب إلى جميع المناطق الإسلامية يطلب فيها إمداده بالعساكر، فجاءته من كل فجٍ عميق، وأخذ «صلاح الدين» في تنظيمها، وفي نفس الوقت، راح يدرس بعناية أوضاع قادة الصليبيين من ملوك وأُمراء ورؤساء، وكانت الخلافات الحادة تفتك بهم، وتخلق الحقد والحسد فيما بينهم، فلقد وقع الصليبيون في قوقعةٍ من النزاعات والانشقاقات نفسها التي وقع فيها القادة العرب من قبل، فلما جاء السلطان الناصر «صلاح الدين» المُنقذ، تغيَّرت الأمور وتوحدت الأمة الإسلامية تحت راية واحدة وقائد واحد، وأصبحت مُستعدة للتصدي وإنزال الهزيمة الساحقة بالصليبيين المُعتدين.
وكالجداول التي تتجمع وتتحول إلى أنهار، وكالأنهار التي تلتحم وتتحول إلى بحر، وقف «صلاح الدين» يستعرض قُواته، والتي تتألف معظمها من الشعبيْن المصري والشامي؛ لقد تمكن هذا البطل العظيم من تحقيق حُلمه القديم، وهو إطباق الصقر العربي بجناحيه المصري والشامي على الصليبيين.
ولم تنته سنة 1187م، حتى اكتمل لـ»صلاح الدين» من أسباب الاستعداد من الناحيتيْن السياسية والعسكرية، ما يحقق هدفه الكبير بالقيام بهجومٍ شامل على الصليبيين، ولم يمنعه من المُبادرة الفعلية في ذلك سوى سنوح الفرصة، لاسيما أن «صلاح الدين» لم يزل مُقيّدًا بالمُعاهدة التي عقدها مع الصليبيين سنة 1185م، فكان لزامًا عليه أن ينتظر حتى ينتهي أجلها أو ينقضها الصليبيون من جانبهم. ولم تلبث أن سنحت الفُرصة بما قام به «ريجنالد شاتيون» صاحب «الكرك» من انتهاك الهُدنة التي عقدها الصليبيون مع «صلاح الدين»، بأن تعرض أوائل سنة 1187م لقافلة عظيمة مُتوجهة من «القاهرة» إلى «دمشق»، فأخذها بأسرها، وأسر ما صاحبها من الأجناد وحملهم إلى «الكرك»، واستولى على خيلهم وعدتهم، ولم يحفل بتهديد «صلاح الدين» ورفضَ أن يفرج عن الأسرى، فنذر «صلاح الدين» دمه، وأعطى اللهَ عهدًا إن ظفرَ به أن يستبيحَ دمه، وترتب على ذلك أن انتقضت الهُدنة.
والمفروض بعد ذلك أن يتوجه «صلاح الدين» مُباشرةً لمهاجمة «الكرك»، غير أنه اكتفى بما شنَّهُ على «الشوبك» و»الكرك»، وأدرك أن حصارهما قد يطول أمده، ولذا اتخذ «عشترا» التي تقع إلى شمال «الكرك»، موضعًا لحشد عساكره التي قدمت من «مصر» و»دمشق» و»حلب» و»الجزيرة» و»الموصل» و»ديار بكر»، وعيًّن مواقف الأمراء وأوقفهم على ما ينبغي أن يسيروا عليه في خطتهم عند الالتقاء بالصليبيين.

انتصاراته الباهرة في موقعة «صفورية»
في الوقت الذي كان «صلاح الدين الأيوبي» فيه مُعسكرًا بالقرب من حصن «الكرك» و»الشوك»، عهد إلى إرسال قوة استطلاعية اختار أفرادها اختيارًا حكيمًا، لِتقوم بالإغارة على مُمتلكات العدو، لِإضعاف مُعسكراته وكشف مُخططاته، فسارت هذه السرية المُدججة بالسلاح والعتاد، باتجاه «صفورية». وقد حرص قُوادها على أن يكون مسيرها على قدر كبير من السرية والخفاء، فكان سيرهم إليها في الجزء الأخير من الليل، على أن يكون هجومهم عليها في الصباح الباكر، وبالفعل فقد نُفذت تلك الخطة بدقة تامة، وأما الصليبيون الذين كانوا ينعمون بنوم هادئ في ذلك الوقت فإنهم قد استيقظوا على أصوات السيوف والرماح وأسرعوا إلى لَمِّ شعثهم وتجميع قواتهم لِمواجهة ذلك الهجوم الإسلامي المفاجئ، والتقى الجمعان، ودارت بينهما معركة رهيبة، انتهت بانتصار إسلامي مُظفر، وسقط معظم الصليبيين قتلى وأسرى، ومما زاد الطين بلة أنه عندما تجرأت قوة صليبية أخرى على الإسراع إلى «صفورية» لِنجدة إخوانهم كانت المعركة قد انتهت فأسر المسلمون تلك النجدة عن آخرها، وعاد المسلمون من هذه المعركة سالمين غانمين.

العمل الاستخباراتي لدى «صلاح الدين»
ثم بعد ذلك رسم «صلاح الدين» الخُطة الحربية المُوَفّقة، وأرسل جيوشه من جديد إلى «صفورية» موضع تجمع الصليبيين، فعلِمَ أنهم حائرون لا يجتمعون على رأي، وآثر انتهاز هذه الحيرة، وزحف إلى «طبرية» يوم 13 ربيع الآخر سنة 583 هجري، فوقعت في يده بعد معركة قصيرة، ولكن قلعتها ذات الأسوار الحصينة قد امتنعت عليه، وبداخلها زوج «ريموند» -أحد الأمراء- مع أولادها وحاشيتها، فأرسلت تستنجد بالجيش الصليبي.
وقد تمكن «صلاح الدين» قبل معركة «حِطين» من استمالة السيدة «سيبيل» زوجة أمير «أنطاكية» المعروف باسم «بوهمند الثالث»، فكانت لها اتصالات سرية مع «صلاح الدين»، حيث تطلعه على خُطط الصليبيين وتحركاتهم أولا بأول، وذلك في فجر «حطين»، ويُؤكد المؤرخ المعروف «ابن الأثير» هذه الحقيقة، فيقول أن أميرة «أنطاكية» كانت تُراسل «صلاح الدين» وتُهاديه وتعلمه كثيرا من الأحوال التي يؤثرها علمها، فكانت بذلك عيْنًا له على العدو، وتطلعه على أسرارهم والسلطان يُكرمها لذلك ويهدي إليها أنفس الهدايا.
وكان «صلاح الدين» في نفس الوقت يبعث بجنوده داخل صفوف الأعداء، لِاستكشاف أسرارهم وأحوالهم وأمورهم ومُحاولة التعرف على خُططهم إذا أمكن ذلك… بهذا استطاع «صلاح الدين» أن يخترق الصليبيين استخباراتيًا، فقد انعكست عبقريته في إيجاد شبكة اتصالات ومُخابرات متينة ضمن صفوف الصليبيين بحيث كانت أخبارهم وتحركاتهم تصل إليه بسرعة، وباستمرار.

انتصاره الكبير في معركة «حطين» المشهورة
في أعقاب هزيمة الصليبيين في موقعة «طبرية»، راحوا يجمعون فُلولهم للقيام بهجوم مُضاد، يسترجعون بها «طبرية» من يدي «صلاح الدين»، وجاءهم الإمداد من سائر البلاد الساحلية، فكانوا في خمسين ألفا، ظانين أنهم سيسحقون جيش الإسلام سحقًا كبيرًا، غير أن القائد البطل لم يترك لهم الفُرصة، فانقضَّ على فُلولهم ومزَّقها، عِلمًا أن المسلمين قد حازوا على ماء البُحيْرة ومنعوها عن الصليبيين، فاشتَّدَ بهم العَطش وفرغ ما مَعهم من الماء، وحالوا بينهم وبين الماء، فأخذتهم سِهام المسلمين وكَثُر فيهم الجرحى، وقَوِيَّ الحر وسَلبهم العَطش القرار، وصاروا كُلما حملوا ليتيسر لهم وُرود الماء صُدوا واستولى عليهم الأسر والقتل، فأرغمهم على التقهقر، وظلوا يتراجعون حتى بلغوا جبل «حطين»، وطاردهم «صلاح الدين» حتى هذا الجبل فأبادهم، وذلك يوم 4 جويلية سنة 1187م، المُوافق ليوم 20 ربيع الآخر سنة 583 هجري. أما المجموعات منهم التي لاذت بالفرار إلى مدينة «صور»، فقد وقعت في أيدي حاميتها، فأسرت مِنهم من أسرت، وقتلت مَن قتلت.
وبقي ملك «بيت المقدس» على التل في 150 فارسًا فحسب، وما زال المسلمون يضرمون الخيم حتى سقطت، وأُسر الصليبيون كُلهم بما فيهم مَلكهم وأمراؤهم، وهنا نزلَ السلطان الناصر «صلاح الدين الأيوبي» عن فَرسه، وسجدَ للهِ شُكرا وبكى من شِدة فرحه؛ فقد كان الصليبيون أُلوفًا لم ينجِ منهم إلا آحاد، وامتلأت الأرض بالأسرى والقتل. وكان يوما لا يُنسى، ساعة أن ضُربت للبطل المُنتصر خيمته الزرقاء، ووقف ملوك الصليبيين وأمراؤهم بين يديه، فتولى السلطان بنفسه قتل المُجرم السَّفاح «ريجنالد شاتيون» جزاء له على غدره، ثم جمع الأسارى المعروفين وأمر بحملهم إلى قلعة «دمشق». وهكذا انتهت معركة «حِطين» بهزيمة نكراء للصليبيين، ولا نجد أبلغ من كلمة المؤرخ «أبي شامة» في التعليق على نتيجة المعركة، حيث قال مُتعجِّبًا: «إنّ مَن شاهدَ القتلى يوم «حِطين»، قال: ما هنالك أسير، ومَن شاهد الأسرى، قال: ما هنالك قتيل، لِكُثرة مَن يراه في الجانبيْن»…!!.
وهكذا توج الناصر «صلاح الدين الأيوبي» النصر الواحد بنصريْن، وكانت موقعة «حطين» بمثابة مِفتاح الفتوح الإسلامية، وبها تَيّسرَ فتح «بيت المقدس»، وهي بداية معركة التحرير الكُبرى للأراضي الإسلامية كُلها… وقد هزت هزيمة معركة «حِطين» أركان الصليبيين، فلم يكونوا ينتظرون انكسارًا كهذا الانكسار يمحوا الجيش ويذل المُحاربين، ويقضي على أكبر كُتلة مُهاجمة في ذلك الزمان، وكان لهذه المعركة الحاسمة دويٌّ في المشرق والمغرب، ولا زال اسمها يرنُ في أسماع الزمان حتى الآن.
ووجه «صلاح الدين» اهتمامه بعد معركة «حِطين» مباشرةً، إلى أن يستولي على أكبر عدد من الحصون والمدن الهامة في أقصر وقت، ولذا صوَّب ضرباته إلى المواني الهامة، التي لم تبدِ إلا مُقاومة ضئيلة، فاستولى على «عكا»، و»قيصرية»، و»حيفا»، و»نابلس»، و»يافا»، و»صيدا»، و»بيروت»، و»جبيل»، و»الرملة»، و»بيت لحم»، و»عسقلان». وبذلك تبددت مملكة «بيت المقدس» في أقل من شهر…!!.
كُل هذا الفتح في شهرٍ واحد، وفي معارك انقضاض، لا تزال في سجل التاريخ كالضوء الساطع.

تحريره لبيت المقدس وتسامحه مع الصليبيين
غير أن هذه الفتوحات الكثيرة، لم تشفِ قلب «صلاح الدين»، فقلبه يخفق هُناك، وأمله كان يُرفرف فوق أرض المدينة المُقدسة، كان قلبه يخفق فوق «القدس»، ففتح «القدس» بالنسبة لـ»صلاح الدين» هو الرمز الأكبر للتحرير، كما هو الرمز الآن بالنسبة للأرض الفلسطينية العربية المُحتلة، وبدأ «صلاح الدين» يعد العُدة لفتح «القدس»، و»القدس» عربية منذ القديم، وهي بلد المسجد الأقصى الذي بارك اللهُ حوله، وإليها كان الإسراء ومنها كان المعراج. تقع بين بحريْن، البحر الميت من الشرق والبحر الأبيض المتوسط من الغرب، فمن البحر المتوسط وعبر موانئه كانت النجدات تصل إلى الصليبيين، ومن أجل هذا كان استيلاء «صلاح الدين» على ثُغور المتوسط كُلها -كما ذكرناها سابقًا-. وأعد الصليبيون عُدتهم للمعركة المُقبلة، وكانت بالنسبة لهم معركة حاسمة، يتوقف عليها مصير حملتهم كُلها… أمام مدينة «القدس» نصبَ «صلاح الدين» خيمته، وراحَ يرسم خُطة الاقتحام، وكانت القلاع الحصينة والأسوار تُحيط بالمدينة المُقدسة من كل جانب. وبعد أن اكتملت الخارطة أمام «صلاح الدين»، قررَ اقتحام «القدس» من الجهة الشمالية -من باب العمود-.
وأمام باب العمود، نصبَ «صلاح الدين» المنجنقيات، وراحَ يقصف الأسوار بالصخور، وبدأت عملية فتح الثغرات في الأسوار، وقاتلَ الصليبيون قِتالًا داميا لإغلاق الثغرات ووقف تسلل المجاميع العربية، ولكنهم فشلوا، واشتد الحِصار على الصليبيين، وتأكدوا من الهزيمة، وأرسل قائدهم «باليان» رسولًا لـ»صلاح الدين» يعرض عليه تسليم مفاتيح «القدس» والصلح. ووافق «صلاح الدين»، وهكذا عادت «القدس» إلى أصحابها مُحرَّرة بالسيوف المصرية-الشامية العربية، وكان ذلك يوم الجمعة 27 من شهر رجب سنة583 هجري، المُوافق لأواخر سنة 1187م، وصادف أن كان يوم الإسراء بما يحمله من دلالات، وكان يوما مشهودًا من أيام الفتح العربي الإسلامي، ولما فتح «صلاح الدين» بيت المقدس وأسرَ جموع الصليبيين، مَنَّ عليهم وكساهم، وقال لهم: «كنتُ أقدر أن أفعل بكم ما فعلتموه بالمسلمين يوم دخلتم «القدس»، ولكن تأبى شيمي ذلك»…!!. إن «صلاح الدين» لم يضع السيف على الرِقاب، حين حرر «القدس» من الصليبيين المُعتدين، ولم يشعل النيران في دِيار الأبرياء، كما فعل الصليبيون حين احتلوا المدينة، بل عاملَ الجميع من أهالي «بيت المقدس» بالمُعاملة الحسنة، وأكرمهم كرم الكُرماء، حتى أن المسيحيين أنفسهم اعترفوا وأقَرُّوا بسماحته، ونُبله، وكرمه، حيث يقول المؤرخ الغربي المعروف «ستانلي بول» في هذا الصدد: «لو أن الاستيلاء على «القدس» كان الحقيقة الوحيدة التي نعرفها عن «صلاح الدين»، لَكانت حقيقة تكفي للدلالة على أن هذا السلطان، كان من أنبل الفاتحين، وأكرمهم في عصره، وربما في أي عصر آخر…».
شاعَ تسامح «صلاح الدين» بين الفرنجة، كما شاعت رحمتهُ بالأرامل والنساء خاصّة، وقد تقدّمت إليه عروس شابة وهو يُحاصر «برزية»؛ فقالت إنها كانت ستُزَفُّ إلى شابٍّ وقعَ في أسره، وكان ميعادُ الزفاف بالأمس، لولا أنه أصبح أسيرًا، ثم انهارت دموعها؛ فأمرَ السلطانُ بإطلاق الأسير، وأهداه إلى عروسه، ومنحها بعض المال…!!.
أما قصة الأُم المسيحية التي اختُطِفَ طفلُها من حضنها، وفرَّ به المُختطفون إلى حيثُ لا تقدر على ردِّه، فرأت أن تستنجد بـ»صلاح الدين»، فأمرَ بالبحث عن الطفل، وأجلسها في خيمته مُكرَّمة حتى وُفِّقَ إلى استرداده… هذه القصة، قد كانت مصدرًا فنيًّا لإلهام أقلامٍ وأفلامٍ كثيرة في الغرب…!!.

البدر فارس/

About Author

%d مدونون معجبون بهذه: