الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله، وافعلوا الطاعات إخلاصًا لا تخلفًا، وحافظوا على النوافل والقربات تقربًا لا تكرمًا، فأنتم أيها الناس.. أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، الجنة قريبة يا عباد الله، شق تمرة يبعد عن النار، وصدقة تطفئ غضب الرب، وكلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان للرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
للاستماع للخطبة صوتيًا اضغط هنا
ووضوءٌ تتحادر به الخطايا، والحسنة بعشر أمثالها إلى مائة ضعف إلى أضغاف مضاعفة، وأقم الصلاة طرفي النهار وثلثًا من الليل إن الحسنات يذهبنَ السيئات ذلك ذِكرى للذاكرين، واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
معاشر المسلمين لا هم يعلو فوق هم التربية، (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا). التربية حفظكم الله ليست مشروع أُسرة أو مشروع مدرسة، بل هي مشروعُ أمة ومشروع دولة.
الزراعة تنتج الغذاء، والصناعة تصنع الأدوات والتجارة تجلب الموارد، أما التربية فتبني الإنسان والوطن وتصنع ذلك كله، التربية علم يُتعلم وعملٌ يكتسب والتزام يطبق، التربية تنمي القدرات ولا توجِدُها، وتطور الملكات ولا تُنشئها، ومن شب على شيء شاب عليه. معاشر الأخوة هذه هي التربية في مكانتها وأثرها أما محلها وميدانها فهم أولادنا.
أولادنا قرة العين وسلوة فؤاد وزينة الحياة وأُنس العيش وثمار القلوب وعماد الظهور، بناة الغد ورجاله ومفكروه وسواعده ومستودع أمانات الوالدين والمعلمين والمربين. الله الله فيهم.
فما اعظم المسؤولية وما اكبر المهمة ايها الاباء ايها الامهات هَم التربية فوق كل هم لا يعصم من الذنوب سوى مراقبة علام الغيوب. اغرسوا فيهم عقيدة التوحيد تَثبت بها قلوبهم وتسكن اليها نفوسهم وتنشرح بها صدورهم وتلهج بها السنتهم وتقوم عليها اعمالهم، ربوهم على تقوى الله وخشيته ومراقبته حتى لا يرجو الا ربه ولا يخاف الا ذنبه. يتعلقون بالله عز وجل ويتوكلون عليه ويتمسكون بكتابه ويلتزمون بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويستعينون بالصبر والصلاة ويذكرون الله كثيرا. اجعلوا طاعة الله لهم دثارا والخوف منه شعارا والاخلاص له زادًا، والصدق جنة ومن استحيا من الله بلّغه عالي المقامات ورفيع المنازل.
علموهم ان الله سبحانه قد حكم ان لا يُطيعه احد الا اعزه ولا يعصيه احد الا اذله، العز مربوط بطاعة الله والذُل مربوط بمعصية الله. معاشر المربين في سورة الإسراء وفي سورة النور وفي سورة الفرقان وفي سورة لقمان من الوصايا التربوية والآداب السلوكية ما يجسد عناية هذا الدين باصول التربية ووسائلها وطرائقها: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ)، (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ)، (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
أيها الآباء.. أيها المعلمونن حببوا إليهم القراءة وطلب العلم، فالعلم سلوة العيش، ودليل الحيرة، وأنيس الوحشة، وخير ما يُعلمون كتاب الله تلاوةً وحفظًا واستماعًا، في البيت وفي المدرسة وفي سائر المرافق والأحوال، وبقدر ما يقرأ الولد من كتاب الله تزداد طمأنينته وتحصل سعادته.
أيها المربون أقيموا ألسنتهم بلغة القرآن حتى تُحفظ لغتهم ويحلو بيانهم، معاشر الأحبة.. ليس أعظم ضعفًا ولا أشد هُزالًا من أن تتكلم الناشئة بغير لُغتها، وتؤرخ بغير تاريخها، وتُفاخر بغير إنتاجها، وتحتفل بغير أعيادها. علموهم أن يغتنموا تعليم العالِم، ويستمعوا إلى نصح المشفق، ويأخذوا بإرشاد الحكيم ويقتدوا ببذل الكريم.
أيها الآباء الفضلاء.. أيها المعلمون النبلاء.. ربوهم على الفضيلة ومكارم الأخلاق، فبالفضائل تدفع الرذائل، فجمال العقل بالفكر وجمال اللسان بالصمت وجمال الكلام بالصدق وجمال الحال بالاستقامة، والقعود عن الفضائل بئس الرفيق. معاشر الإخوة.. ومن أعظم وسائل التربية وأنجحها: التربية بالقدوة، الأبناء بحاجة إلى قُدوات لا إلى نُقاد، جالسوهم.. صادقوهم.. تحدثوا إليهم.. فرغوا أنفسكم من أجلهم، إنكم إن لم تجدوا لهم عندكم وقتًا فلن تجدوا عندهم لكم مكانًا. إعطاؤهم من وقتكم خير لهم من إعطائهم من مالكم، وأن تستثمروا فيهم خير من أن تستثمروا لهم، كونوا لهم قدوة بحكمة العقل وعفة اللسان وصدق الحديث وطهارة اليد وحسن الخلق.
يقول عمر ابن عتبة مخاطبًا مُعلم ولده ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحَسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت، كونوا لهم مستمعين يكونوا لكم بررة، أحبوهم وأثنوا عليهم وشجعوهم وبادلوهم المِزاح والمرح. معاشر الاباء والمربيين.. احذروا أن تستحوذ على الأبناء والبنات أدوات التواصل والمواقع الافتراضية، بُثّوا فيهم الوعي، فلا يُصدق كل صورة، ولا يستسلم لكل تغريدة، ولا يقبل كل معلومة، ففي كثير منها مواقع الخلل ومواطن الزلل. لا يجعل أدوات التواصل محطات عبور لشائعة، أو سبيلًا لغيبة، أو طريقًا لكذبة تبلغ الآفاق، فالأوزار مكتوبة، والآثام محسوبة بلمسة لم تكن في الحسبان، وجهوهم أن يجعلوا من هذه الأدوات نقاط تفتيش تحجز الأذى وتمنع الفحشاء.
معاشر المسلمين ومن أعظم ما يستهدف في التربية إقامة بناء الشخصية في الناشئة والاعتزاز بالقيم، والاعتداد بالنفس، والبعد عن التقليد المميت، والحذر من الاندفاع وراء مهازيل المشاهير في ملبسٍ أو مطعمٍ أو سلوك، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
اغرسوا فيهم أن الباطل باطل ولو كثر أتباعه والحق حقٌ ولو قل أتباعه، راية الحق قائمةً وإن لم يرفعها أحد، وراية الباطل ساقطةٌ ولو رفعها كل أحد، والحرام حرام ولو فعلهُ كل الناس. المرء بآدابه لا بثيابه، وبدينه وخلقه لا بنسبه وقبيلته، أيها المربون.. أيها المسؤولون.. شجعوهم على الجد، وحفظ الوقت، وشغل وقت الفراغ، وتحمل المسؤولية، واتخاذ القرار، فمن أكثر الرقاد لم يحقق المراد، ومن كثر نومه سبقه قومه، وحب الراحة يُورث الندم، ولا يُبلغ الامل إلا بالجد والعمل، والهداية طريقها المجاهدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
وبعد حفظكم الله فإن من علامة صحة التربية قلة الخلاف، وحسن الإنصاف، وترك تطلب العثرات، والتماس الأعذار، واحتمال الأذى، ولين الكلام، وطلاقة الوجه. ومن العدوان في التربية كثرة اللوم، ورفع الصوت والمقارنة بالآخرين، والذي يجمع أساليب تربية ويحقق ثمرتها: التفاهم بين الوالدين، والانسجام والهدوء والاستقرار في البيت في محبةٍ ورفقٍ وتشجيعٍ وثقةٍ وتغاضٍ وتسامحٍ، فينتج بإذن الله أبناءً صالحون صحت عقائدهم، وحسن سلوكهم، عناصر بناء وإيجابيةٍ في توازنٍ وانضباطٍ واعتدالٍ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
نفعني الله وإياكم بهديِ الكتاب، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأسأل الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله.. الحمد لله يُنال بحمده الثواب، أحمده سبحانه وأشكره وهو المنعم الوهاب، أستغفره وأتوب إليه، فهو غافرُ الذنبِ وقابلِ التوبِ شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه توكلت وإليه متاب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدالله ورسوله، جاء بالحق وفصل الخطاب صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله والأصحاب والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا.
أيها المسلمون تربية الأولاد إحسان وطاعة وأجر، وقد أُثر عن بعض السلف قوله أن من الذنوب ما لا يُكفره إلا هم الأولاد. الوالدان هما الأرض الذليلة، والسماء الظليلة، والمُدخران لكل جليلة.
أيها الآباء.. أيها المعلمون.. التربية الصحيحة تحفظ الوطن قبل أن يحرسه الجيش المنظم، والناشئة هم دروع الوطن وحماة استقرارهم.
علموهم أن الوطنية إخلاص وعمل وبناء وتعاون وحماية وأمانة واحترام. وطنك تحبه وتدافع عنه ولا تنتقص منه ولا ترضى أن يُنتقص منه، وتقف في وجه أعدائه المتربصين والحاقدين عليه. الوطنية محافظةٌ على الممتلكات، والمرافق، والمقدرات، وسلوك سبيل الرشد والترشيد في الصرف، استهلاك بالطاقة والثروات، وحماية النزاهة، ومكافحة الفساد أيًا كان مصدره وأيًا كان مقترفه.
علموهم أن المواطنة توظيف الملكات والقدرات والخبرات في خدمته، وتعزيزه ورفعته على الأصعدة كافة. الوطنية عينٌ ساهرة، وهمةٌ عالية، وسعيٌ حثيث إلى مراقِ النجاح. الوطنية أن يكون المواطن الصادق مرآةً لوطنه، فما يصدر عنه هو انعكاس لوطنيتهِ. الوطنية أن يكون المواطن رمزًا لوطنه في الداخل وسفيرًا له في الخارج. الوطنية أن تكون قدوةٌ صالحةٌ صادقة ناصحة، تحفظ لولاة الامر حقهم من الطاعة والمحبة والنصح والدعاء وصدق الولاء. الوطنية ولاءٌ ينبذ العصبية بكل أشكالها من قبليةٍ ومناطقيةٍ وطائفيةٍ.
معاشر الأخوة.. فإذا كانت هذه هي بعض معاني الوطنية ومظاهرها فما بالكم إذا كان الوطنُ هو مهد الإسلامِ وبلد المقدساتِ الذي يرفعُ راية الإسلام، ويحكُم بالكتاب والسنة.. إذا كان الوطن هو بلد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية.
الوطنية في هذا البلد المبارك التزامٌ بدين الله عقيدةٌ وشريعةٌ واتباعٌ لنهج السلف الصالح في ثوابته وأخلاقه وجميل عاداته وأعرافه، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم. وإذا كان ولي الأمر في هذه البلاد المباركة حفظه الله أشرف لقب يحمله هو خادم الحرمين الشريفين، فلا شك أن المواطنين تَبع له في شرف الخدمة لهذا البلد المبارك، بلد المقدسات.
نعم حفظكم الله إن أعلى ما يجسده عن المواطنة هو خدمة الوطن بكل معاني الخدمة ومتطلباتها ومستلزماتها، ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، فالرجل راعٍ في بيته ومسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولةٌ عن رعيتها، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين