الرئيسية 08 الشبكة الثقافية 08 أدب وقصة 08 باب المغاربة (قصة قصيرة)

باب المغاربة (قصة قصيرة)

ودَّ أن يخبرهم بشيء كانوا يجهلونه عنه، آن له اليوم أن يحكيه، فيما مضى اختزن أسراره مثلما يتقوت النمل في مساكنه حبات القمح، أغلق عليها فوهة بئر عميقة، لم يكن من أهل هذا البلد، جاء إليه متدثراً باسم قربه إليهم، فالمعجم يتسع لكل المعميات، تضخم بفعل التهرؤ، لكنه صامت، فالكلمات فيه منتزعة من سياق الحياة، سحنة وجهه لا تشبه أحداً هنا، حتى لكْنة لسانه اجتهد كثيراً ألا تظهر في ثنايا كلامه، كل هذا لسر خفي، منكم من سيقول: لِمَ جاء إلى هذا المكان التائي؟ بعض التأويلات؛ هروباً من ثأر، والبعض ستخالطه الظنون؛ فراراً من فقر، والآخرون ربما حدثوا بمهارة؛ إنه هرب من القيد.

كل ذلك وهْم؛ فهو من بلاد بعيدة، ترصدته العيون في ولع بالتشفي، أبوه ذلك المرتحل في الزمان، تركه وحيداً، ألقى به حيث متاهة لا نجاة منها، تدثرت بثياب تشبه الأسمال العتيقة، أحلامه بل وأوهامه سواء، الصمت في هذه اللحظة يعجل بموته قبل أن تتخطفه تلك الأنياب الموغلة في القهر، البوح بأسراره يقيناً يخفف آلام ساعة الرحيل.

حدَّق في أولاده الذين تجمعوا حول فراش ينذر بالموت، استعاد خريطة تثنت في ردهات ممر النسيان، جوار البحر الذي مات يوماً، قال لهم: أنتم مثل هؤلاء الذين اجتمعوا هناك من أيام؛ جوار البحر الميت كانوا هم الموتى؛ خُشب مسندة، أحدهم هبط من الطائرة كبراً؛ فزلت قدمه، وأما العماد فقد سقط على أم رأسه!

رغم أن المسافة بينه وبين المدينة المباركة مد البصر، لكن عيونهم سملت بألف إبرة صدئة.

أعلم أن أجسادكم ترهلت مثلهم، صرتم أشبه بالثيران الهجين، سمنت رقابكم، احمرت خدودكم، هذه الأرض رغم ما بها من ثراء ظاهر؛ هي وخمة أثقلت خطوكم، حتى أنا نسيت لِمَ جئت هنا.

السنوات التي كتب عليَّ أن أنزوي هنا، انقضى أجلها، لا أتذكر جيداً كم هي.

ما تمسكه ذاكرتي بعض معالم باهتة تشير إلى تلك البقعة المباركة من الوادي الأيمن، منذ تلك النكبة الكبرى، ارتحل بي أبي وجاء بي إلى هذا المكان، التخفي أرهقه، الأقاويل تبعته مثل وشم في وجنة البدو، ولأنه كان ممن رفعوا البندقية لم يساوموا عليها، حكى لي أنه وجدي حفرا نفقاً سرياً قبالة باب المغاربة، امتلأ بهؤلاء الأوغاد، كان يساعده عزرائيل في مهمته!

أبي كان السقّا، يحمل قربته، يدور في الأزقة، يتشمم الأخبار ثم يعطيها للحسيني، هذه هي صورته تلك التي احتفظتُ بها، جعلتُها ورق ثبوتيتي، ذلك المفتاح هو للباب المطعم بمقبض صلاح الدين، لست واهماً، أراكم تعجبتم، نعم تلك هي مطوية سري الذي أخفيته عنكم، ربما تصعد روحي اليوم، ستخفون موتي، وصيتي إليكم أن تضعوا جسدي هناك!

ربما سيقف الجنود المختالون بالثوب العربي في وجوهكم، بل ستبث الإذاعة العربية نبأ العثور على الهارب، سيطعمون الأسماك بقايا رجل تخفّى ستين عاماً.

تداعت إليه صورة أمه، لم يرها، حكت له جدته أنها كانت بارعة الجمال، ذلك الدفء في حضن لم يعوضه عنه ما جمعه من أموال النفط، عمل وسيطاً في كل شيء، مارجريت سرقت منه عمره، وجوههم الشقراء، ذلك البرود في عواطفهم، المكر الذي تغلل في ثناياهم، ليته عقم فلم يخرجوا من نطفته، الآن هم أنكروه، ما عاد بهم حنين لباب المغاربة، لم يتعطروا يوماً بزيت الزيتون.

كانت تحتفظ في خزانتها بذلك الوشم، لم تكن مصادفة أن التقاها في الطائرة، في المقعد المجاور له، كانت في زينتها، أغراه حديثها، مشاعرها المنسابة بين وجه يعرف ألف قناع، عرّفها بنفسه: “عودة أبو الجود” وسيط نفط، أما هي فـ”مارجريت ديل” باحثة في التاريخ، تجيد العربية، وتخفي رموزاً عبرية في محبرة سرية.

كانت ماهرة في تتبع الخفايا، ضللت إذ همت بها، سرقت مني مفتاح ذاكرتي، تسربت من خلالي إلى أولاد الحسيني، كنت البعير العربي في ضلالة الزمن المكتسي بالخيبة.

دلست حتى على ذاتي، تعاطيت الوهم أن نقتسم النهر، بشمت بتلك الكلمات الجوفاء، وكلما تعايشت معها غاصت قدماي في الوحل، سخرت من الشيخ القعيد، صورته لكم شيطاناً، عجزت أن أكون مثله!

يملك مفتاح بيته، أولاده لم ينخر السوس أبوابهم، لم تكن أمهم مارجريت، وجب عليَّ أن أقول لكم: الخطوات التي سرتها معها باعدت بيني وبين باب المغاربة.

دخل حفيده ماجد، احتضنه، قبَّله من وجنتيه، أسرَّ إليه: الشيخ يبلغك سلامه، غداً سأكون عند باب المغاربة طيفاً إلى الجنة!

الكاتب :   د. السيد شعبان

About Author

%d مدونون معجبون بهذه: