تشهد صناعة التكنولوجيا اهتماماً متزايداً من قبل الشركات العملاقة، التي تسعى للاستثمار في تطوير ما يسمى بنماذج الذكاء الاصطناعي “السيادية”، حيث تسعى الشركات من خلال هذا التوجّه، إلى تعزيز قدرتها التنافسية في مختلف الأسواق حول العالم، عبر تقديم حلول تكنولوجية أكثر تكيفاً مع قوانين كل بلد على حدة.
وحالياً، تستخدم الشركات المطوّرة لبرامج الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI وAnthropic وميتا، مراكز بيانات مقرها الولايات المتحدة لتخزين البيانات ومعالجتها، وهذا ما يثير قلق السياسيين والجهات التنظيمية في مختلف دول العالم، خصوصاً في قارة أوروبا، التي ترى أن الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية يضر بقدرتها على تحقيق الصمود التكنولوجي.
وبحسب تقرير أعدته شبكة “CNBC” العالمية واطلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يقول كريس جو، كبير مسؤولي السياسات العامة للاتحاد الأوروبي في شركة سيسكو الأميركية، إن “الذكاء الاصطناعي السيادي” هو مصطلح جديد نسبياً ظهر في العام الماضي أو قبل ذلك بقليل، وهو يعتمد على فكرة تحقيق “السيادة الرقمية” عبر تخزين بيانات الأشخاص على البنية التحتية داخل البلد أو القارة التي يقيمون فيها.
ما هو الذكاء الاصطناعي السيادي؟
الذكاء الاصطناعي السيادي هو مفهوم متقدم يهدف إلى تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي محلية تتمتع بالاستقلالية التامة، حيث تُصمم وتُدار ضمن الحدود الوطنية أو الإقليمية.
ويمثل الذكاء الاصطناعي السيادي خطوة حاسمة للحكومات نحو تحقيق استقلال رقمي ويمنحها سيطرة على البيانات والبنية التحتية التقنية، بما يضمن الامتثال إلى التشريعات القانونية للدولة.
ومن خلال هذا النهج، تهدف الحكومات إلى تقليل اعتمادها على التقنيات المستوردة من الدول أو الشركات العالمية، مما يسهم في تعزيز أمنها القومي.
من أين جاءت فكرة “سيادة الذكاء الاصطناعي”؟
إن مفهوم سيادة البيانات والتكنولوجيا كان من بين الموضوعات التي كانت مطروحة على أجندة أوروبا في السابق، وقد نشأ هذا المفهوم جزئياً نتيجة لتفاعل الشركات العالمية مع اللوائح الأوروبية الجديدة.
ففي عام 2020، ألغت محكمة العدل الأوروبية إطار تبادل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، على أساس أن الاتفاقية لم توفر نفس مستوى الحماية الذي يضمنه القانون داخل الاتحاد الأوروبي.
وفي العام الماضي، تم التوصل إلى إطار جديد يضمن تبادل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بأمان، حيث أدت هذه التطورات في نهاية المطاف إلى دفع الشركات نحو توطين بنيتها التحتية السحابية في أوروبا.
من دعم فكرة الذكاء الاصطناعي السيادي؟
بحسب ما كشف كريس جو، كبير مسؤولي السياسات العامة للاتحاد الأوروبي في شركة سيسكو، لشبكة “CNBC”، فإن مفهوم “سيادة الذكاء الاصطناعي” لم يتم دفعه إلى الأمام من قبل الجهات التنظيمية الحكومية، بل من قبل الشركات الخاصة التي كان لها دور كبير في إطلاق هذه التسمية، مشيراً إلى أن البلدان تدفع بفكرة “سيادة الذكاء الاصطناعي” لأنها تدرك أن الذكاء الاصطناعي هو المستقبل وهو تكنولوجيا استراتيجية للغاية.
من جهته يقول فيليبو سانيسي، من شركة السحابة الفرنسية OVHCloud، إن اللائحة العامة لحماية البيانات داخل الاتحاد الأوروبي، حفّزت الكثير من الشركات داخل الاتحاد للقيام بتوكيل جهات محلية بمهمة معالجة البيانات، مشيراً إلى الشركات الأوروبية باتت تدرك أهمية وجود بياناتها داخل القارة، وإخضاعها للتشريعات المحلية.
ولفت سانيسي إلى أن هذه البيانات، يمكن استخدامها في صنع منتجات وخدمات للذكاء الاصطناعي، ولذلك يجب أن تكون ذات سيادة، ويجب التحكم فيها وتطويرها محلياً.
السيادة الرقمية أولوية ملحة
وتقول أخصائية التقنية دادي جعجع، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه مع احتدام المنافسة التكنولوجية على الساحة العالمية، تتجه الدول بشكل متزايد نحو تحقيق استقلالية رقمية من خلال تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي سيادية، حيث تهدف هذه الجهود إلى ضمان التحكم الكامل في البيانات والبنية التحتية التقنية، مشيرة إلى أنه في أوروبا، يُروج بقوة لمفهوم “الاستقلالية الرقمية” كاستراتيجية لتعزيز الأمن الرقمي وحماية الخصوصية، في حين تسعى دول مثل الصين والهند إلى بناء أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة ترتكز على مواردها المحلية، وهذا التوجه يعكس إدراكاً متزايداً بأهمية امتلاك تقنيات وطنية مستقلة في عالم يهيمن عليه التنافس الرقمي والابتكار التكنولوجي.
وتلفت جعجع إلى أن البيانات والذكاء الاصطناعي التوليدي، يعدان من أهم الركائز الاستراتيجية في العصر الرقمي، حيث باتت البيانات تُعرف بـ”نفط القرن الحادي والعشرين” لما تحمله من إمكانات هائلة لتحفيز الابتكار ودعم الاقتصادات، في حين يعتمد الذكاء الاصطناعي التوليدي على هذه البيانات لإنشاء محتوى جديد وتحليل المعلومات بطرق غير مسبوقة، وفي ظل هذه الأهمية المتزايدة، تسعى الدول إلى حماية بيانات مواطنيها، وعدم استغلالها من قبل المنافسين، ما قد يعرّض الأمن القومي للخطر، مشددةً على أنه مع التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي، أصبح التحكم في بيانات المواطنين أولوية ملحة للحكومات.
وتشير جعجع إلى أن شركات أميركية كبرى مثل Google وMicrosoft وAmazon تتمتع بتفوق هائل في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يدفع الدول الأخرى إلى الاعتماد بشكل كبير على حلولها في البنية التحتية والتطبيقات، وهذا التوجّه يثير مخاوف أوروبا، التي ترى أن الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية قد يعرض أنظمتها الحيوية، مثل قطاعات الطاقة والنقل، لمخاطر الاختراق أو التلاعب، بالإضافة إلى ذلك، ترى أوروبا أن التسليم بتفوق أميركا في مجال الذكاء الاصطناعي سيضعف القدرة التنافسية للشركات المحلية ويحد من فرصها في التوسع عالمياً، ولذلك فإنها تسعى ومن خلال اللوائح التنظيمية إلى إبقاء البيانات الحساسة داخل الحدود الوطنية ما يجبر الشركات على توطين وتطوير أعمالها محلياً وبالتالي تحقيق مفهوم الذكاء الاصطناعي السيادي.
لماذا تخشى أوروبا الذكاء الاصطناعي الأميركي؟
من جهته يقول المحلل التقني جوزيف زغبي في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن أوروبا وباعتبارها واحدة من أكبر الأسواق التكنولوجية في العالم، تبدي مخاوف جدية من احتمالية نقل بيانات حساسة خارج حدودها، خصوصاً إذا ما استُخدمت هذه البيانات في أنظمة ذكاء اصطناعي لدعم القدرات العسكرية، والعمليات الدفاعية والهجومية في سياقات تتعارض مع مصالحها، ولذلك تسعى السلطات هناك إلى تعزيز مفهوم “السيادة الرقمية” والاستثمار في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي، تضمن ألا تُستخدم هذه التكنولوجيا الحيوية، في تعزيز نفوذ أطراف خارجية، لافتاً إلى أن أوروبا تريد أيضاً أن تبقى قادرة على إدارة وتشغيل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بحرية كاملة، فالدول التي تعتمد على أنظمة ذكاء اصطناعي مستوردة، قد تواجه قيوداً على استخدامات هذه التكنولوجيا في أوقات الأزمات.
تحديات الذكاء الاصطناعي السيادي
ويشدد زغبي، على عدم قدرة جميع الدول على تطبيق مفهوم “الذكاء الاصطناعي السيادي”، فتطوير هذه التكنولوجيا يتطلب إمكانيات تقنية ومالية وبشرية هائلة، مما يجعل تحقيق هذا الهدف تحدياً كبيراً، فالذكاء الاصطناعي المحلي يتطلب توافر بنية تحتية تقنية متقدمة، تشمل مراكز بيانات ضخمة وأجهزة حوسبة عالية الأداء، إضافة إلى استثمارات مالية ضخمة، ولذلك فإن الدول ذات الاقتصادات الصغيرة أو النامية أو التي تفتقر إلى البيانات، ستبقى دولاً تابعة في مجال الذكاء الاصطناعي.
ويرى زغبي أنه على الأغلب فإن الكيانات الكبيرة مثل أميركا والصين وأوروبا هي التي ستتمكن من تطبيق مفهوم “الذكاء الاصطناعي السيادي” أما الدول الأخرى، فستجد نفسها مضطرة للاعتماد على التكنولوجيا المستوردة، مما يعزز تبعيتها في المجال الرقمي، لتصبح بياناتها الوطنية وحتى الحساسة منها، تحت سيطرة الشركات الأجنبية، مما يشكل خطراً على سيادتها وأمنها القومي