جميع الحقوق محفوطة لموقع الشبكة الجزائرية نت 2008 .. 2025
الرئيسية 8 الشبكة الاسلامية 8 الاسرة والطفل 8 أدب الطفل والذكاء الاصطناعي.. تمييز الصدى عن الصوت!

أدب الطفل والذكاء الاصطناعي.. تمييز الصدى عن الصوت!

أدب الطفل ليس مجرد نصوص شعرية أو قصصية موجّهة للصغار، بل هو فضاء إنساني تربوي وفلسفي يختزن في طياته محاولة دائمة للإجابة عن سؤال الوجود في أبسط صوره: كيف يتعلم الكائن الصغير أن يكون إنساناً؟ حيث إن الأدب في هذا السياق جسر بين الطفولة الناشئة والعالم، بين براءة السؤال البديهي وتعقيد التجربة الإنسانية، وفي اللحظة التي يقرأ فيها الأب لطفله قصة صغيرة قبل النوم، يتكوّن أول خيوط الوعي الجمالي واللغوي في ذهنه، وعندما تُقدّم المعلمة لتلاميذها قصة عن الصدق بلغة محبّبة، فهي لا تعلّمهم قيمة الصدق فحسب، بل تزرع فيهم وعياً باختيار الصدق دائماً في التعامل مع الآخر، كما يمكن للوالدين والمعلمين أن يجعلوا من القصة اليومية عادة أسرية مقدسة، تُقرأ لا لأجل التسلية فقط، بل لتغذية الروح بالدهشة والأسئلة.

كيف يرى الطفل العالم؟

الطفل في بداياته الأولى لا يرى العالم كما نراه نحن؛ بل يراه صوراً متقطعة، رموزاً غامضة، وأصواتاً غير مكتملة، ليأتي الأدب -قصةً كانت أم حكايةً أو حتى أغنية- ليعيد ترتيب هذا التبعثر في صورة قصصية قابلة للفهم، فيُشكّل عقل الطفل كما لو كان ينحت أولى لبنات الوعي؛ لذلك فإن أدب الطفولة المبكرة يُعدّ الأكثر خطورة وعمقاُ؛ فهو لا يزرع مفردات لغوية وحسب، بل يغرس في الطفل القدرة على الحلم والقدرة على التساؤل والقدرة على الانتماء.

الثورة الرقمية.. «كائن افتراضي» يدخل معادلة التربية

ومع انتقال الطفل إلى مراحل عمرية لاحقة، يتحول الأدب إلى مرآة أوسع، تتيح له إعادة اكتشاف ذاته في ضوء الآخر، وفي مرحلة الطفولة المتأخرة يغدو الأدب مساحة حوار بين النص وتجربة الحياة؛ يعلّمه كيف يفكر لا فقط كيف يتلقى، هنا يتجاوز الطفل التلقي السلبي ليصبح الأدب وسيلة للتأمل ولإعادة إنتاج العالم بلغته الخاصة، فعندما يرى الطفل الفراشة تطير ثم تختفي، فهو لا يسأل: أين ذهبت؟ فقط، بل يحاول أن يفهم معنى الفقد والغياب، من هنا يأتي دور الأدب ليحوّل هذا الغموض إلى معنى، ولعل قصة بسيطة عن الفراشة التي تبحث عن ألوانها قد تُصبح درساً في فهم الذات قبل أن تكون درساً في الطبيعة.

الثورة الرقمية وعالم الطفولة

لكن ومع الثورة الرقمية، دخل عنصر جديد إلى هذه المعادلة التربوية؛ «الذكاء الاصطناعي»، هذا الكائن الافتراضي الذي لا ينام ولا يشيخ، وقد أصبح قادراً على إنتاج النصوص والقصص في لحظات، فكيف سيتعامل الطفل مع نص أدبي لا يُحكى بصوت جدته، ولا يُخطّ بيد إنسان، بل يُنتج عبر خوارزمية؟!

في المراحل الأولى من العمر يحتاج الطفل إلى حضور إنساني حيّ؛ إلى نبرة الصوت، إلى دفء العينين، إلى التفاعل الجسدي الذي لا يمكن للآلة أن تمنحه، ذلك أن الذكاء الاصطناعي مهما بلغت قدرته على المحاكاة، يظل يفتقر إلى اللمسة الإنسانية التي تُعلّم الطفل معنى الحنان والانتماء.

غير أن حضور الذكاء الاصطناعي قد يكون مساعداً إذا ما جُعل وسيلة تفاعلية تُمكّن الطفل من اللعب بالخيال، ومن تجربة المشاركة في صناعة القصة، لا بديلاً عن ذلك البعد الوجداني الأصلي، فقُبلة الأم بعد القصة ليست تفصيلاً عاطفياً عابراً، وإنما جزء من النص نفسه تكمل معناه، وضحكة الأب حين يغيّر صوته ليؤدي دور الأسد في القصة، تُعلّم الطفل أن الحكاية لا تُروى بالكلمات فقط، بل بالروح.

أما في المراحل اللاحقة، حين ينمو وعي الطفل قد يكتب الطفل قصة قصيرة بمساعدة تطبيق ذكاء اصطناعي، ثم يقرأها على معلمته، فتسأله: هل هذه الكلمات تُشبه قلبك؟ فيتعلّم أن التقنية ليست بديلاً عن صوته، بل وسيلة لتقويته، وبالتالي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحول إلى مختبر معرفي يساعد الطفل على النقد والتحليل والمقارنة، عندها يصبح الطفل قادراً على التمييز بين النصوص الآلية والنصوص الإنسانية، فيدرك أن الخيال لا يُختزل في المعادلات الرقمية، بل يمتد إلى التجربة الإنسانية الحيّة، وأن التقنية ليست سوى أداة بينما الأصل هو الإنسان.

حين يتحاور الطفل مع الآلة

تربية الطفل على التعامل مع الأدب في عصر الذكاء الاصطناعي ليست مجرد تربية على القراءة أو التحليل، بل هي تربية على الحوار مع الآخر، سواء أكان الآخر إنساناً أو آلة، ومن ثم فإن الغاية ليست فقط تكوين قارئ واع، بل تكوين مواطن عالمي يحتفظ بذاكرته الثقافية وهويته، وهو في الوقت نفسه قادر على العبور إلى آفاق جديدة من المعرفة الكونية.

ويبقى السؤال مفتوحاً: هل الأدب الذي يُنتج عبر الذكاء الاصطناعي قادر على أن يكون بديلاً عن الأدب الإنساني؟ أم أنه مجرد مرآة تقنية تزيد من تنوع الوسائط دون أن تمس جوهر العملية التربوية؟

الإجابة تكمن في طريقة تعاملنا نحن الكبار مع هذه الوسائل، وكيف نُعلّم الطفل أن يظل ممسكاً بجوهره الإنساني في عالم يزداد افتراضية، فحين نُطلب من الطفل أن يكتب قصة قصيرة بمساعدة أداة ذكية، فلنقل له: دع الآلة تقترح، لكن اجعل قلبك يختار، فليكتب عن زهرة رآها في الطريق، أو عن صديق تخيّله من الضوء، ليشعر أن القصة ليست كلمات مصطنعة، بل أنفاس من ذاته.

كذلك في درس القراءة، يمكن للمعلم أن يعرض نصاً تولّده التقنية، ثم يسأل الأطفال: هل تشعرون بدفء الكاتب في هذا النص؟ ما الفرق بينه وبين قصة كتبها إنسان؟ هنا يتعلم الطفل التمييز بين البصمة الروحية والبراعة التقنية.

توصيات معاصرة

1- لنجعل من أدب الطفل في عصر الذكاء الاصطناعي جسراً بين الدهشة الأولى والعقل الرقمي، يعلّم الصغير كيف يرى بعين القلب قبل شاشة الآلة.

2- ينبغي أن نحفظ للطفولة حقّ الحلم وسط صخب الخوارزميات، فالإبداع لا يُولَد من البرمجة، بل من العفوية والدهشة.

3- على الأدباء والمربين أن يجعلوا التقنية خادمةً للخيال لا سيّدةً عليه، وأن يُبقي الأدب مساحة للدفء الإنساني.

4- توجيه الطفل كيف يُحاور الذكاء الاصطناعي دون أن يفقد ذاته، وكيف يجعل من الحرف مرآةً للروح لا لمجرّد المعالجة اللغوية.

5- تربية الطفل على الأدب في زمن التقنية تربية على التمييز بين الصدى والصوت، بين الإنسان ونُسخته الرقمية.

6- لنكتب للطفل نصوصاً تُعيد إليه براءة السؤال وكرامة الوعي؛ لأن مستقبل الإنسانية يبدأ من صفحة تُقرأ بقلب طفل.

في النهاية، يظل أدب الطفل –سواء أكان ورقياً، أم شفوياً، أم رقمياً- رحلة تربوية فلسفية، تبدأ من الحكاية الأولى في حضن الجدة، ولا تنتهي حتى عند آخر خوارزمية يبتكرها الذكاء الاصطناعي، هو رحلة لا تسعى إلى مجرد تعليم الطفل القراءة، بل إلى تعليمه كيف يقرأ نفسه، وكيف يصوغ مع الآخرين عالماً أكثر إنسانية في قلب العاصفة الرقمية.

أ.د. أحمد محمد القزعل

عن الشبكة نت

arالعربية
جميع الحقوق محفوطة لموقع الشبكة الجزائرية نت 2008 .. 2025