في ليلة 28/ 29 أكتوبر الجاري، عادت السماء لتُطبِق على غزة؛ عشرات الغارات والمدفعية في الشمال والوسط والجنوب، وساعات الفجر حملت حصيلة ثقيلة؛ مصادر طبية محلية أفادت بسقوط أكثر من 67 شهيدًا، حتى لحظة كتابة هذا المقال، بينهم أطفال كُثر، وفيما حاولت الحكومة «الإسرائيلية» وصف ما جرى بأنه «ردّ محدود» ضمن هدنةٍ قائمة، خرجت تصريحات أمريكية تؤكد أن «لا شيء سيعرّض الهدنة للخطر» حتى مع استمرار الضربات.
هذه الصورة لا تُشبه هدنة بقدر ما تُشبه إعادة تشغيل لعجلة القتل بوتيرة متقطّعة؛ أي جولة ثانية من الإبادة الجماعية بأدوات وذريعة جديدة، تجعل العالم الغاضب من الجرائم «الإسرائيلية» أكثر تقبلاً لهذا النوع من القتل، فيما يحول الفلسطيني لضحية جيدة تُقتل بصمت بينما يحدثك العالم عن نزع سلاح المقاومة!
هدنة على الورق.. ونار على الأرض
دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ ظهر 10 أكتوبر 2025م، وفق الصيغة التي أعلنها البيت الأبيض، ووافقت عليها حكومة الاحتلال وحركة «حماس» كجزء من المرحلة الأولى لخطة تبادل الأسرى/ المعتقلين، وإعادة انتشار للقوات، ورفع كبير لمستوى دخول المساعدات، فيما صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بوضوح: «الحرب انتهت، الحرب انتهت»، لكن خلال أسبوعين فقط، شهد القطاع تصعيدين واسعين (19 و28 أكتوبر) بالإضافة لعشرات الخروقات اليومية ومواصلة التدمير للمنازل شرق الخط الأصفر على طول قطاع غزة.
فيما تواصل «إسرائيل» القول: إن الهدنة قائمة وتُلقي بالمسؤولية على المقاومة الفلسطينية، هذا الخلل البنيوي بين نصوص الخطة ووقائع التنفيذ هو ما يسمح بتحويل الهدنة إلى غطاء لعمليات قصف دورية.
600 شاحنة يوميًا على الورق.. وأقل من 100 فعليًا!
تعهّدت الخطة بتمرير ما يصل إلى 600 شاحنة مساعدات يوميًا، بيانات الأمم المتحدة التي حلّلتها وكالات دولية تُظهر أنّ المتوسط الفعلي منذ 10 أكتوبر كان دون 100 شاحنة في اليوم (نحو 94 شاحنة)، أي أقل من سُدس المتّفق عليه، فيما تؤكد الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية أن ما يصل لا يزال جزءًا يسيرًا من المطلوب، فوق ذلك، أبقت «إسرائيل» معبر رفح مُغلقًا حتى إشعار آخر، وربطت إعادة فتحه بملف تسليم جثامين المحتجزين؛ ما خنق الحركة الإنسانية والمرضى، هذه ليست هدنة إنسانية؛ هذا خنقٌ مُقنّن.
بعد عامين من الحرب، تُقدِّر فرق الأمم المتحدة وجود آلاف عديدة من الجثامين ما تزال مطمورة تحت الركام، فيما تعترض مخلّفات المتفجرات وإغلاق المعابر طريق فرق الإنقاذ، وتُفيد تقارير ميدانية ووكالات بأن إدخال الجرافات والحفّارات الثقيلة ظلّ مقيّدًا إلى حدِّ المنع الفعلي؛ ما يجعل انتشال الجثامين وإعادة فتح الطرق مهمة شبه مستحيلة، إننا أمام سياسة تُبقي الموتى تحت الركام وتمنع الأحياء من دفنهم بكرامة.
ملف المرضى في غزة
في 22 أكتوبر الجاري، سمحت أول عملية إجلاء طبي منذ نهاية سبتمبر الماضي بخروج 41 مريضًا و145 مرافقًا فقط، بينما ينتظر ما يقارب 15600 حالة حرجة الإجلاء، بمتوسطٍ يقلّ عن 10 مرضى يوميًا خلال عام 2025م، منظمة الصحة العالمية تُحذّر صراحة من أن المساعدات الطبية والإحالات جزء يسير ممّا يلزم، وأن استمرار القيود على المعابر -خاصة إغلاق رفح- يهدد حياة آلاف المرضى، هدنةٌ لا تُنقذ أرواح المرضى ولا تُسعف الجرحى، ليست هدنةً؛ إنها تمديدٌ للكارثة.
الإبادة الجماعية مستمرة
في 16 سبتمبر 2025م، خلصت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة إلى أن السلطات «الإسرائيلية» ارتكبت وتواصل ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، ودعت إلى إنهائها فورًا، كما أبقت محكمة العدل الدولية على مجموعة تدابير مؤقتة تُلزم «إسرائيل» بمنع أفعال الإبادة وضمان دخول المساعدات، عندما تُستأنف الضربات واسعة النطاق، ويُخنق دخول الإغاثة، وتُقيَّد الإحالات الطبية، وتتواصل سياسات التجويع والتهجير؛ إن السؤال عن الجولة الثانية لا يصبح دعاية هنا، وإنما توصيف لاستمرارية النمط الإجرامي الذي وثّقته هيئات أممية.
ماذا تعني الجولة الثانية للإبادة الجماعية عمليًا؟
تعني الجولة الثانية للإبادة الجماعية عمليًا أن «إسرائيل» تُعيد هندسة أدوات القتل ضمن هدنةٍ مُعلنة؛ ضربات موضعية تُسقط عشرات الشهداء دفعة واحدة، وإبقاء المعابر مقفلة أو مُقنّنة، وتقليص الممرات الإنسانية، وتحويل ملف الجثامين والرهائن إلى ذريعة لنسف بنود الإغاثة، هذا يوازي، بمقاييس القانون الدولي الإنساني، استمرار أركان الجريمة؛ القتل، وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي الجسيم، وفرض ظروف معيشية مؤذية تؤدي للتدمير المادي الجزئي أو الكلي للجماعة.
نعم، كل المؤشرات الميدانية والقانونية تقول: إننا أمام بداية جولة ثانية من الإبادة الجماعية في غزة، تُدار تحت لافتة «هدنة»، بينما تُستأنف أدوات القتل، ويُخنق شريان الحياة.
المعادلة بسيطة؛ هدنةٌ لا توقف القتل، ولا تُطلق الممرات الإنسانية بالحدّ المتفق عليه، ولا تسمح بدفن الموتى أو إنقاذ المرضى؛ هي هدنة زائفة تحتاج كسرًا سياسيًا وقانونيًا وإعلاميًا عاجلًا.
أدهم أبو سلمية
 الشبكة الجزائرية نت البوابة الجزائرية للاعلام والثقافة
الشبكة الجزائرية نت البوابة الجزائرية للاعلام والثقافة
				 
 
		
 
											 
											 
											 
											 
											 العربية
العربية