جميع الحقوق محفوطة لموقع الشبكة الجزائرية نت 2008 .. 2025
الرئيسية 8 الشبكة الاسلامية 8 احوال المسلمين 8 «محاكم التفتيش».. العار الذي يحاول الغرب دفع العالم لنسيانه

«محاكم التفتيش».. العار الذي يحاول الغرب دفع العالم لنسيانه

عمل الغرب الصليبي لحرمان العالم من معرفة ما حدث في «محاكم التفتيش»، ودفعه لنسيانها، لكن تسربت بعض الوثائق من الكنائس تصف بعض المشاهد، حيث يتم الدفع بالذين يتم الشك في ولائهم للإسلام إلى قبو حجري عميق تشتد فيه الظلمة، وعلى ضوء شمعة يدخل كاهن ليستجوب السجين، وخلفه حارس ضخم الجثة، يشهر سيفه.

يوجه الكاهن الذي يقوم بدور القاضي الاتهام للسجين بأنه يمارس شعائر الإسلام سرًا، وتعليم أولاده اللغة العربية، وتحفيظهم سور القرآن الكريم.

ويسود الصمت، فالسجين لا يستطيع نفي الاتهام بعد أن تعرض للتعذيب الذي يستهدف قهر الجسد والروح لأيام طويلة، كانت كلمات الكاهن تحمل الكراهية والرغبة في الانتقام وسفك الدماء.

صراع العقيدة.. الإسلام أغلى من الحياة

اقترب الكاهن فجأة من وجه السجين: ما رأيك في سيدنا المسيح؟!

لم يكن أمام السجين مجال للصمت، فرد بهدوء: إنه نبي من عند الله.. لكنني أشهد أن لا إله إلا الله، فانفجر الكاهن غضبًا، وضرب الأرض بعصاه، وقرر أن يجرب طريقة جديدة في التعذيب، فأحضر زوجته وطفله الذي كان يرتجف خوفًا، ونزع الطفل من حضن أمه قائلًا: هذا الطفل سنرسله للدير ليتم تربيته هناك، فينسى أنك أبوه، وكان نحيب المرأة وصراخها يهز أركان القبو، لكن الكاهن لا يعرف الرحمة، إنه بلا قلب ولا ضمير.. لكن السجين كان ينظر إلى السماء يرجو رحمة الله الواحد الأحد.

يسحب الجلادون السجين ويلقونه في النار، وهو يصيح: الله أكبر، ويردد شهادته قبل أن يختفي جسده داخل النيران.. هذا المشهد تكرر مع آلاف الموريسكيين الذين صدقوا أن الصليبيين يمكن أن يلتزموا بعهد أو ميثاق.

تعالوا نبحث عن بعض الشهادات عن هذه المحاكم، من أهمها شهادة خوان أنطونيو لورينتي، وهو مؤرخ وكاهن، كان أول من كتب تاريخًا نقديًا لـ«محاكم التفتيش»، في كتابه «التاريخ النقدي لمحاكم التفتيش الإسبانية» الذي يعد مرجعاً رئيساً في تصوير التعذيب الذي كانت تمارسه «محاكم التفتيش».

وكان لورينتي يعمل سابقًا ضمن «محاكم التفتيش» ثم انقلب عليها، فكتب عنها بجرأة، واعتبر أن «محاكم التفتيش» أداة استخدمتها الكنيسة والملوك الكاثوليك، لسحق حرية الفكر وقمع المعارضة، تحت ذريعة حماية العقيدة ووصفها بأنها «دولة داخل الدولة»، تمتلك قوة تفوق القانون المدني، وأشار إلى أنها كانت تخدم أهدافًا سياسية، مثل إسكات المعارضين أو السيطرة على الأقليات (اليهود، والمسلمين، والبروتستانت).

محاكم ظالمة تقهر الإنسان

كما أدان لورينتي بشدة الإجراءات القانونية داخل هذه المحاكم، ووصفها بأنها سرية تمامًا، بحيث لا يعرف المتهم حتى أسماء الشهود ضده وتعتمد على التعذيب لانتزاع الاعترافات، وتُصدر أحكامًا بالإعدام أو السجن المؤبد أو المصادرة دون محاكمات عادلة، وقال: إن المحاكم كانت تحكم بالإعدام ليس بناء على الجريمة، بل على العقيدة والميل الفكري.

ووثق لورينتي أساليب التعذيب الجسدي والنفسي التي كانت تستخدمها المحاكم، مشيرًا إلى أنها تمارس التعذيب تحت إشراف رجال الدين، وتستخدم الخوف كأسلوب لتدمير شخصية المتهم، وأن الرعب وحده كان كافيًا لأن يعترف الأب على ابنه، والزوج على زوجته، ووصف المحاكم بأنها تراقب الكتب وتحرق ما يخالف العقيدة الكاثوليكية، وتتحكم في التعليم والمعرفة، وتمنع تداول كتب العلم أو الفلسفة التي تُعتبرها خطرًا على المسيحية، واتهم لورينتي الكنيسة باستخدام الدين كغطاء للقوة والثراء والسيطرة، كما أشار إلى أن رجال الدين أنفسهم كانوا فاسدين، وأن السلطة كانت تغطي ذلك باسم الدفاع عن العقيدة.

وقال: إن الدين في يد «محاكم التفتيش» لم يكن سوى سلاح موجه ضد العدل والضمير، وقدر لورينتي عدد الذين تمت محاكمتهم في «محاكم التفتيش» بـ300 ألف تم الحكم بالإعدام على 30 ألفاً منهم في الفترة من عام 1408 حتى 1808م.

الإبداع في أساليب التعذيب

كما صادرت هذه المحاكم ثروات ضخمة من المتهمين، حيث يقول لورينتي: بعد سقوط غرناطة، بدأ الضغط على المسلمين للتنصّر، ومن رفض واجه الطرد أو القتل، ومن قَبِل ظاهريًا عاش في رعب دائم.. أما المساجد فتحوّلت إلى كنائس، والقرآن أصبح ممنوعًا، واللغة العربية حُظرت، وحتى الحمّامات العامة أغلقت لأنهم اعتبروها من عادات المسلمين، وهؤلاء المسلمون المتظاهرون بالمسيحية أصبحوا هدفًا دائمًا لـ«محاكم التفتيش».

وكان المسلم يُستدعى فجأة، غالبًا بناءً على وشاية من جار أو قريب، ولا يعرف التهمة، ولا الشهود، ولا مصيره.

وكانت أشهر الاتهامات هي الصلاة سرًا، والصيام في رمضان، والاغتسال صباح الجمعة، والحديث بالعربية، والامتناع عن أكل لحم الخنزير أو شرب الخمر.

أساليب التعذيب

ويصف لورينتي بعض أساليب التعذيب التي تستخدمها «محاكم التفتيش»، حيث يُربط الضحية فوق عارضة مثلثة حادة، ويدلّى ثقل على قدميه حتى يتمزق جسده، وتُلف الحبال حول الذراعين أو الساقين وتُشد تدريجيًا حتى تتهشم العظام، ويربط الضحية من يديه خلف ظهره ويُرفع بالحبل فجأة ثم يُسقط؛ ما يخلع كتفيه.

وتوضع كمّامة مبللة تُغلق فم المتهم وتُصب فيها الماء حتى يختنق، وكانوا يُجبرون الضحية أثناء ذلك على الاعتراف بأنه مارس الإسلام أو استخفّ بالتعميد، أما الإعدام فيتم في احتفال علني تُقرأ فيه أحكام المحكمة، ومن أُدين بـ«الهرطقة» يُحرق حيًا في الساحة العامة، ومن تاب يُجلد أو يُسجن أو يُنفى، وغالبًا تصادر ممتلكاته بالكامل، وكان الحرق يُقدّم كـ«تطهير للنفس»، بحضور القساوسة والجماهير والملك أحيانًا.

الجريمة ما زالت مستمرة!

هناك أديب إسباني هو هنري كارمن كتب أن «محاكم التفتيش» ما زالت تؤثر على المؤسسات الأمنية الحديثة، حيث جاء في كتابه «محاكم التفتيش الإسبانية.. مراجعة تاريخية» أنها استخدمت القتل لتكريس الهوية السياسية والدينية للمجتمع الإسباني، وتطهير المجتمع من الأديان الأخرى، وقمع أي آراء مخالفة، وأثر ذلك على الثقافة الإسبانية التي أصبحت تقوم على تقييد حرية الفكر والعلم، وأنها سلاح قمع فكري، كما أنها تركت بصمة دائمة على المؤسسات الأمنية من خلال الممارسات الوحشية التي ما زالت تستخدم التعذيب والاعتقال غير القانوني، وأن السلطات الإسبانية ما زالت تتبع الأساليب التي استخدمتها «محاكم التفتيش».

ونحن نضيف إلى ذلك أن هذه المحاكم قد وضعت أساليب التعذيب التي ما زال الطغاة في العالم يستخدمونها حتى الآن في القهر الفكري والنفسي في السجون، كما أن السلطات الاستبدادية ما زالت تستخدم أساليب هذه المحاكم في الرقابة على الفكر والرأي.

كما يرى هنري كارمن أن هذه المحاكم أثرت على الوعي الجمعي، حيث نشرت ثقافة الشك والخوف، وظل المجتمع الإسباني حتى الآن يعيش حالة حذر واكتئاب بسبب التاريخ الطويل من القمع، كما أن التراث الأمني الناتج عن هذه المحاكم أسهم في استمرارية الأنظمة الاستبدادية والرقابية في إسبانيا حتى الآن، وبذلك تم إخضاع الجميع لسلطة الكنيسة والدولة.

ويقدم كارمن وصفًا لأساليب التعذيب الجسدي التي استخدمتها «محاكم التفتيش»، التي تستهدف إلحاق أكبر قدر من الألم بجسم الإنسان وتمزيق عضلاته وتعطيل أعصابه.

لكن كارمن يصف أساليب التعذيب النفسي التي تستهدف تحطيم معنويات السجناء والضغط النفسي عليهم، ومنها أسلوب الإيهام بالغرق الذي ما زالت السلطات الاستبدادية تستخدمه لنزع الاعترافات، حيث يتم الوصول بالسجين إلى حافة الموت؛ ولذلك يضطر السجناء إلى الإدلاء باعترافات كاذبة، ويبالغون فيها بهدف الوصول إلى الإعدام للخلاص من التعذيب.

ولذلك، كان للتعذيب في «محاكم التفتيش» أثر نفسي طويل المدى على المجتمع الإسباني، حيث أصبح الخوف والضغط النفسي جزءاً من ثقافة المجتمع، كما أصبح المجتمع الإسباني يعاني من الإحساس بالذنب، كما مهد لثقافة الرقابة والقمع السياسي في إسبانيا.

وباستخدام «محاكم التفتيش»، تمكنت الكنيسة من فرض سلطتها بالقوة، لكنها أضعفت المجتمع الإسباني على مر العصور، وخلقت ثقافة تقوم على الشك المتبادل والخوف والكراهية، والرقابة، وتجنب المخاطرة الفكرية وعدم قدرة الناس على التعبير عن معتقداتهم الشخصية.

لقد كان تأثير «محاكم التفتيش» على المجتمع الإسباني عميقًا ومؤلمًا على المستويات السياسية والاجتماعية والنفسية حتى الآن، حيث كانت وسيلة لنشر الخوف، ودفعت الناس إلى فرض الرقابة الذاتية على أنفسهم، وتجنب المناقشات، وأثر ذلك على الإبداع الفكري، ولذلك توقف العلماء عن اكتشاف الأفكار الجديدة بسبب الخوف من اتهامهم بالهرطقة أو الزندقة أو مخالفة الفكر الكاثوليكي.

كما أدت هذه المحاكم إلى ترسيخ فكرة العدو الداخلي التي تقوم على أن أي شخص يخالف الدين الرسمي (الكاثوليكية) يعتبر تهديدًا للهوية الدينية والسياسية للمجتمع، وأدى ذلك إلى ترسيخ العقلية الاستبدادية في الدولة الإسبانية، وقمع المعارضة، وكان من أسباب الحرب الأهلية الإسبانية، واستمرار الأنظمة الاستبدادية مثل حكم فرانكو الذي استخدم التعذيب ضد المعارضين، وهذا يشكل امتدادًا لتقاليد «محاكم التفتيش»، وفرض الرقابة على المجتمع، وفرض سلطة الكنيسة على المؤسسات السياسية.

د. سليمان صالح

عن الشبكة نت

اضف رد

arالعربية
جميع الحقوق محفوطة لموقع الشبكة الجزائرية نت 2008 .. 2025