لم يكن محمد السنوار ابن لحظة عابرة في التاريخ الفلسطيني، بل نتاج بيئة مثقلة بالاحتلال، ومشبعة بفكرة المقاومة كخيار حياة.
في سن مبكرة، تشكّل وعيه على وقع تأثير شقيقه الأكبر يحيى السنوار، أحد أبرز قادة حركة المقاومة الإسلامية حماس ورئيسها السابق، الذي استشهد لاحقًا مشتبكًا مع قوات الاحتلال خلال عملية طوفان الأقصى.
لم يكن التأثر عاطفيًا فقط، بل تحوّل إلى التزام عملي؛ إذ انخرط محمد في العمل الدعوي، وكان من رواد المساجد، ومن أوائل المنضمين إلى صفوف حركة حماس منذ تأسيسها في ١٤ ديسمبر/كانون الأول ١٩٨٧، حيث تبلورت شخصيته بين الإيمان والتنظيم والانضباط.
من الدعوة إلى القسام.. صعود العقل العسكري
في عام ١٩٩١، التحق محمد السنوار بكتائب الشهيد عز الدين القسام، ليبدأ رحلة طويلة في العمل العسكري السري. تدرّج في المواقع القيادية بهدوء، مكتسبًا خبرة ميدانية عميقة، حتى أصبح عضوًا بارزًا في هيئة الأركان. وفي عام ٢٠٠٥، تولّى قيادة لواء خان يونس، إحدى أكثر الجبهات سخونة.
خلال هذه المرحلة، نسج علاقة وثيقة مع القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف ونائبه مروان عيسى، في شراكة عسكرية قامت على التخطيط الدقيق والعمل الصامت، قبل أن تغتالهما “إسرائيل” بعد عملية طوفان الأقصى.
رأت فيه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية “العقل المدبر” لعدد من العمليات الفدائية، لا سيما المرتبطة بالأنفاق المفخخة التي استهدفت مواقع عسكرية إسرائيلية على مدار خمس سنوات، منذ اندلاع انتفاضة الأقصى وحتى انسحاب الاحتلال من قطاع غزة عام ٢٠٠٥.
الوهم المتبدد.. العملية التي صنعت الأسطورة
شكّلت عملية “الوهم المتبدد” عام ٢٠٠٦ نقطة تحول مفصلية في مسيرة محمد السنوار، إذ ساهم بشكل مباشر في التخطيط والتنفيذ للعملية التي انتهت بأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
وتقدّر مصادر متعددة مسؤوليته المباشرة عن هذا الملف، بما في ذلك عملية التأمين والاحتجاز.
وقبل محاولة اغتياله عام ٢٠٠٨، يُنسب إليه، بالشراكة مع القائد الكبير الشهيد محمد الضيف، تأسيس “وحدة الظل”، التي تولّت مسؤولية تأمين شاليط واحتجازه طوال خمسة أعوام، دون أن تتمكن أجهزة الاحتلال من الوصول إليه، في واحدة من أكثر الملفات إحراجًا للأمن الإسرائيلي.
ثلاثة عقود من المطاردة والتخفي
على مدى السنوات التالية، ظل محمد السنوار هدفًا دائمًا لمحاولات الاغتيال. ففي عام ٢٠١٢، تعرّض منزله للقصف خلال العدوان الإسرائيلي، وتكرر الأمر خلال عدوان عام ٢٠١٤، لكنه لم يكن موجودًا في أي من الموقعين المستهدفين، كما نجا من محاولة اغتيال جديدة خلال الحرب الإسرائيلية على غزة في مايو/أيار ٢٠٢١، التي أطلقت عليها المقاومة اسم “معركة سيف القدس”.
منذ انضمامه إلى القسام عام ١٩٩٢، سار على نهج رفيقه محمد الضيف في التخفي، ولم يُسجّل له أي ظهور علني أو إعلامي مكشوف الوجه، ما انعكس شحًا كبيرًا في المعلومات الاستخبارية عنه لدى الاحتلال، رغم اعتباره أحد أخطر قادة القسام.
الإنسان خلف القائد
بعيدًا عن الحسابات العسكرية، كان محمد السنوار إنسانًا يعيش بتواضع مقصود. استخدم في تنقلاته سيارات قديمة أو شبيهة بمركبات النقل العام، وتعمد التمويه في الدخول والخروج من منزله المعروف في مخيم خان يونس جنوب القطاع، وكان قليل الكلام، شديد التركيز، يعاني من انحناءة في ظهره نتيجة إصابة تعرض لها في محاولة اغتيال خلال حرب عام ٢٠١٤، لكنه واصل العمل دون شكوى.
وتشير شهادات من رافقوه إلى إشرافه الشخصي على أدق تفاصيل العمل الميداني، وزياراته المتكررة للحدود الشرقية، ومكوثه الطويل داخل الأنفاق التي حفرتها المقاومة ضمن خطط الجهوزية لمواجهة الاحتلال.
عمليات خاصة وبصمة تنظيمية
أشرف محمد السنوار على عدد كبير من العمليات العسكرية النوعية، من أبرزها عملية “ثقب في القلب” التي نفذها الاستشهادي القسامي عمر سليمان طبش في ١٨ يناير/كانون الثاني ٢٠٠٥، وأسفرت عن مقتل اثنين من كبار ضباط المخابرات الإسرائيلية وإصابة سبعة آخرين.
كما أشرف على مجريات التحقيق بعد حادثة تسلل قوة خاصة إسرائيلية إلى شرق خان يونس في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١٨ التي كشفها الشهيد نور بركة، وأدار الرد العسكري باستهداف حافلة عسكرية إسرائيلية.
وخلال مسيرته، حرص على تعلم اللغة العبرية، وأتقنها، وكان مطلعًا على تفاصيل الشأن الإسرائيلي. كما أشرف على تأسيس شبكة اتصالات داخلية آمنة لكتائب القسام بعد حرب ٢٠١٢، وأسهم في تأسيس وحدة الإدارة والتنظيم وهيئة ضبط الجودة في الصناعات العسكرية خلال السنوات الأخيرة.
طوفان الأقصى.. قيادة اللحظة الأخيرة
كان محمد السنوار من أبرز الشخصيات التي شاركت في التخطيط لعملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ولعب دورًا محوريًا في تفاصيل الخطة الدفاعية في غزة بعد العملية، وفق ما أكده الناطق باسم كتائب القسام.
وفي خضم الحرب، تولّى قيادة أركان كتائب الشهيد عز الدين القسام خلفًا لشهيد الأمة الكبير محمد الضيف، في مرحلة وُصفت بأنها من أعقد المراحل التي مرت بها المقاومة.
وفي ٢٩ ديسمبر/كانون الأول، زفّت كتائب القسام القائد الكبير الشهيد محمد السنوار “أبو إبراهيم”، مؤكدة إسهامه الكبير في التخطيط والتنفيذ، ومسيرة امتدت لعقود، من “الثأر المقدس” إلى “الوهم المتبدد”، ومن قيادة لواء خان يونس إلى أعلى المواقع القيادية، ليُختَم له بالشهادة في ثغور العزة والشرف.
هكذا عاش محمد السنوار ثلاثين عامًا في الظل، وقاد واحدة من أهم مراحل الصراع من خلف الستار.
لم يسعَ إلى مجد شخصي، ولم يطلب صورة أو منبرًا، لكنه ترك أثرًا عميقًا في مسار المقاومة الفلسطينية. قصة رجل اختار أن يكون غير مرئي، ليصنع ما لا يمكن تجاهله، ويثبت أن القادة الحقيقيين يُعرفون ببصمتهم لا بوجوههم.
المركز الفلسطيني للإعلام
الشبكة الجزائرية نت البوابة الجزائرية للاعلام والثقافة