احتفلت الولايات المتحدة الأمريكية في الرابع من الشهر الجاري بالذكرى السابعة والأربعين بعد المائتين (247) لعيد استقلالها. تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من بين أصغر الأمم عمرا، ولكنها من أسرعها تقدما وصعودا حضاريا. صعود الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر قوة عظمى في العالم لا يرجع إلى عام 1916 عندما تجاوز اقتصادها نظيره البريطاني ليصبح أكبر اقتصاد في العالم، ولا يرجع كذلك إلى 1945 عندما أصبحت أكبر قوة عسكرية في العالم بعد امتلاكها للقنبلة النووية،
ولكن صعود الولايات المتحدة الأمريكية يعود إلى 1863 عندما أصدر الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن إعلان تحرير العبيد. ورغم أن وثيقة إعلان الاستقلال في 4 جويليه 1776 نصت على أن «جميع الرجال خلقوا متساوين، وأن خالقهم منحهم حقوق معينة غير قابلة للتصرف، من بينها الحياة والحرية والسعي وراء السعادة» إلا أنه كان يجب انتظار مرور87 سنة، وحدوث حرب أهلية طاحنة استمرت لأربع سنوات(1861ـ 1865) وقتل فيها600 ألف شخص ليصبح تحرير العبيد ساري المفعول في الولايات المتحدة الأمريكية.رغم بقاء وضعية السود في الجنوب الأمريكي رهينة التمييز العنصري، إذ لم يكن من السهل إلغاء ممارسة دامت 245 سنة كاملة. ولذلك كان قرار أبراهام لينكولن بإلغاء العبودية بالغ الأهمية في مسار الصعود الحضاري للولايات المتحدة الأمريكية. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991 أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة في العالم بلا منافس والإمبراطورية القادرة على التصرف حسب هواها.
رغم أن الولايات المتحدة مازالت تتصدر قائمة دول العالم في الإنتاج الصناعي والتكنولوجي والبحث العلمي والهيمنة الاقتصادية والثقافية، إلا أن مؤشرات انهيارها أو تراجعها كأكبر قوة عظمى أصبحت تتلاحق وتتسارع وتتجسد في النواحي الأخلاقية والاقتصادية والعسكرية،فعشية احتفال الولايات المتحدة بعيد استقلالها كانت القوات الإسرائيلية المحتلة تشن في 3 جويليه 2023 هجوما بريا وجويا وحشيا على سكان مخيم جنين الفلسطيني، وفي الوقت الذي أكدت فيه خبيرتان دوليتان أن عمليات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة: «تشكّل انتهاكات صارخة للقانون الدولي ولمعايير استخدام القوة ويمكن أن ترقى إلى جريمة حرب». أعاد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية تأكيد الموقف الأمريكي من الجريمة الإسرائيلية بقوله: «نحن ندعم أمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن شعبها ضد حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني والجماعات الأخرى». رغم اعتراف وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكي بحق الثورة على مظالم وقهر الاحتلال، فكان الولايات المتحدة بهذا الموقف المخزي تخون مبادئها وقيم ثورتها التي حققت استقلالها. وتحولت الولايات المتحدة الأمريكية من قوة ثائرة إلى قوة تبرر الظلم وتمارسه وتسانده، وهذا من أكبر عوامل انهيار الحضارات. ولا تكتفي الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة نظام سياسي ظالم، ولكنها تقود أيضا نظاما اقتصاديا ظالما ومستغلا. فالفجوة بين الفقراء والأثرياء آخذة في الاتساع. فقد وصل نصيب الأثرياء، الذين يمثلون واحدا في المائة من إجمالي سكان العالم، إلى 20 في المائة من إجمالي الدخل العالمي، وزاد نصيبهم من ثروات العالم من 25 في المائة في الثمانينيات من القرن الماضي إلى 40 في المائة في عام 2016. في26 جوان 2023 ذكرت مجلة أمريكية وفقاً للبيانات التي جمعتها، أن أغنى 10 أشخاص في العالم يمتلكون مجتمعين ثروة صافية قدرها 1.39 تريليون دولار. وقد تجاوز هذا المبلغ إجمالي الناتج المحلي المجمع لأفقر 100 دولة، والذي يبلغ 998.2 مليار دولار، بمقدار 400 مليار دولار. بينما كان من المتوقع القضاء على الجوع والفقر في العالم في حدود 2030، ذكرت الأمم المتحدة في منتصف الشهر الجاري (جويليه2023) أن الأزمات الأخيرة – من كوفيد-19 إلى غلاء المعيشة ـ دفعت 165 مليون شخص إلى الفقر منذ 2020، وسيقع 90 مليون شخص تحت خط الفقر البالغ 3.65 دولارات في اليوم، وفق توقعات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
في 1987 كان الناتج الداخلي الخام في الصين لا يتجاوز 173 مليار دولار ،بينما كان يبلغ في نفس الفترة في الولايات المتحدة الأمريكية 4,855 تريليون دولار. في 2003 كان الناتج الداخلي الخام للولايات المتحدة الأمريكية يصل إلى 11,5 تريليون دولار، بينما كان الناتج الداخلي الخام للصين لا يتجاوز 1,66 تريليون دولار، أي أن الناتج الداخلي الخام للولايات المتحدة كان يفوق بقرابة عشرة أضعاف مقابله الصيني. واليوم يتوقع اقتصاديون أن تتفوق الصين على أمريكا في سنة 2028، وبذلك ستطيح الصين بالولايات المتحدة الأمريكية بعد خمس سنوات من عرشها الاقتصادي الذي تربعت عليه في سنة 1916. في شهر مارس 2023 أصدر المعهد الأسترالي للسياسة الإستراتيجية تقريره السنوي بعنوان «السباق العالمي نحو قوة المستقبل». أشار فيه إلى أن ريادة الصين العالمية تشمل 37 من أصل 44 تقنية حساسة تتضمن الدفاع، والفضاء، والروبوتات، والطاقة، والبيئة، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الصناعي، وتكنولوجيا الكم. في حين تقتصر ريادة الولايات المتحدة (وهنا المفاجأة) على سبعة مجالات فقط. يشمل ذلك المجالات المتعلقة بأنظمة الإطلاق الفضائية والحوسبة الكمية.
من مؤشرات السقوط تراجع القوة العسكرية للولايات المتحدة، ففي 2023، وبعد عشرين سنة من غزو العراق نشرت مجلة (ايكونوميست) تقريرا أشارت فيه إلى أن حرب العراق ساهمت في إجهاد الجيش الأمريكي وتركته غير قادر على التنافس المحتدم مع الصين. من جهته قال الجنرال المتقاعد غريغوري نيوبولد مدير العمليات لهيئة الأركان المشتركة خلال الفترة التي سبقت الحرب لصحيفة (نيويورك تايمز): «إن الاستثمار في الحرب جاء على حساب الاستعداد العسكري الحالي للولايات المتحدة. إنفاق كل هذه الأموال على العمليات في زمن الحرب ترك أموالا أقل لميزانية التقنيات المستقبلية. نظرا إلى قدرات الجيش الصيني بصواريخ تفوق سرعة الصوت، وحجم قواتهم، مقابل انخفاضنا في عدد سفن البحرية وأسراب سلاح الجو وألوية الجيش.لا يمكنك إلا أن تشعر بأننا لسنا قادرين كما كنا في 2003». في 1 سبتمبر 2021 نشر المؤرخ البريطاني بول كينيدي مقالا في مجلة (الإيكونوميست) البريطانية اعتبر فيه هزيمة أمريكا في أفغانستان، وتركها لمعداتها العسكرية متناثرة في معظم أنحاء تلك الدولة، حلقة من حلقات المصير الذي آلت إليه مملكة هابسبورج القديمة التي نشأت في 1804 وانهارت بعد الحرب العالمية الأولى في سنة 1918. وفي شهر أوت 2021أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) خروج آخر جندي أمريكي من أفغانستان لتنتهي بذلك حرب استمرت 20 سنة. واليوم تغوص الولايات المتحدة أكثر فأكثر في المستنقع الأوكراني، ورغم تبجحها الإعلامي بما تحققه من مكاسب في هذه الحرب إلا أن الواقع يكشف تأثرها السلبي بهذا الصراع الذي يواصل استنزاف قدراتها العسكرية،حتى وإن كانت تخوض الحرب بالوكالة وعن بعد. ففي 12 جويليه 2023 نشرت صحيفة (وول ستريت جورنال)، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن اعترف بأن بلاده تعاني نقصا في الذخيرة وكذلك أوكرانيا، التي قال إن ذخائرها تكاد تنفد، واعتبرت الصحيفة أن: «نقص الذخيرة في الولايات المتحدة وصمة عار يجب محوها في أسرع وقت ممكن». وعلى إثر ذلك هاجم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الرئيس الحالي جو بايدن، بعد حديث الأخير عن نفاذ الذخيرة الأمريكية. وقال: بايدن خرق نظام المعلومات السرية بقوله إن ذخيرة أمريكا تنفد، بايدن يظهر ضعفنا أمام العالم ويعرض أمريكا للخطر بقوله إن ذخيرة البلاد نفدت».
من أقوي مؤشرات السقوط الحضاري للولايات المتحدة الأمريكية شيوع الانحراف الأخلاقي وتشجيع الفواحش . وليس خافيا أن ظهور المعاصي والمجاهرة بها وارتكاب الخطايا والمفاخرة بها والانغماس في الذنوب هي من أسباب سقوط وهلاك الحضارة الإنسانية. في العاشر من جوان 2023 احتفل في البيت الأبيض الرئيس الأمريكي جو بايدن وزوجته بيوم المثليين، كما وجه في هذه المناسبة رسالة لمجتمع المتحولين جنسيا (المثليين) خصوصا للأطفال قال فيها: «أنتم محبوبون، صوتكم مسموع». وتحدث عن اتخاذ إجراءات جديدة لحماية حقوق وسلامة المثليين مما أسماه بـ «الهجمات والتشريعات المرعبة»، وفي 25 جوان 2021 صنف ملهى ليليا للمثليين في ولاية فلوريدا «نصبا تذكاريا وطنيا». أما زوجته جيل بايدن فقد قالت: «يعتبر هذا الاحتفال دائما أحد أكثر الأحداث إثارة في البيت الأبيض… إنه لشرف كبير أن أكون هنا معكم جميعا وأن أرى الكثير من أصدقائنا».
ومن بين مؤشرات الانهيار الوشيك للإمبراطورية الأمريكية كذلك تزايد وتصاعد حوادث العنف الداخلي والتمييز الاجتماعي، فظاهرة إطلاق النار تتفاقم بشكل مستمر في ظل استمرار السياسات الاجتماعية والثقافية للإدارات الأميركية المتعاقبة على مستوى الداخل الأميركي إضافة إلى السياسات الخارجية الداعمة للهيمنة والحروب وافتعال الأزمات والنزاعات على مستوى العالم. يمتلك واحد من كل ثلاثة أشخاص بالغين في الولايات المتحدة سلاحا ناريا واحدا على الأقل، ويعيش واحد من كل شخصين بالغين في منزل يحوي قطعة سلاح ولذلك فإن عنف السلاح يتجدد كل يوم في الولايات المتحدة الأمريكية، ليشمل حتى الأطفال المسلحين.
أ. عبد الحميد عبدوس/