لم تكن القدس يومًا مدينةً يمكن أن تُختصر في حجارةٍ أو تُحبس داخل جدرانٍ وجغرافيا ضيّقة، إنّها قلب الأمة ورمزها ومهوى أفئدة المسلمين، ومركز إشعاعها الحضاري منذ أن اختارها الله لتكون أرض الإسراء وموضع المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.
وكل محاولة لعزل القدس أو اقتطاعها عن جسدها الفلسطيني ليست مجرد خطوة عابرة في مشروع استيطاني متراكم، بل هي محاولة لقتل روح المدينة وتجفيف شرايينها.
«E1».. مشروع الاحتلال الأخطر لتهويد القدس والضفة
ومن بين كل المشاريع التي أطلقها الاحتلال منذ عقود يبرز مشروع «E1» باعتباره الأخطر والأكثر تهديدًا لمستقبل القدس والضفة الغربية معًا؛ لأنه لا يستهدف قطعة أرضٍ صغيرة ولا مجموعة بيوتٍ متفرقة، بل يضرب صميم الترابط الجغرافي والسكاني والسياسي للضفة الغربية كلها.
يقع هذا المشروع على مساحة تقارب 12 ألف دونم بين شرقي القدس ومستوطنة معاليه أدوميم التي أنشأها الاحتلال لتكون قاعدة متقدمة نحو الشرق، ومنذ التسعينيات يخطط الاحتلال لتحويل هذه المنطقة إلى جسرٍ عمراني يربط المستوطنة بالمدينة، بحيث تصبح جزءاً عضوياً من القدس المحتلة، بينما تُقصى عنها القرى الفلسطينية ويُحاصر أهلها.
ولذلك، فإن الحديث عن مشروع «E1» ليس حديثاً عن إسكانٍ جديد أو توسيعٍ طبيعي لمستوطنة قائمة، كما يزعم الاحتلال، بل هو حديث عن إعادة هندسة سياسية كاملة للمنطقة، ترسم حدوداً جديدة للمدينة وتجعلها مطوقة بإسمنتٍ صامت يعزلها عن عمقها الفلسطيني.
لقد عاشت القدس منذ عام 1967م تحت حصارٍ متعدد الأشكال، لكنّها احتفظت بامتداد طبيعي نحو الشرق يصلها بباديتها وأغوارها ويمنحها عمقاً حيوياً في الضفة الغربية، واليوم يريد الاحتلال أن يقطع هذا الامتداد، وأن يحوّل شرقي القدس إلى جيبٍ مغلق لا عمق له، محشورٍ بين كتل استيطانية متصلة.
وهذا التحوّل لا يعني زيادة عدد المستوطنين فحسب، بل يعني إفراغ المدينة من معناها الحضري الفلسطيني، فمدينة بلا اتصالٍ بأحيائها وضواحيها، ولا حركة بينها وبين محيطها، تتحول إلى مساحة صامتة بلا حياة، مهما ازدانت بالحجارة والمعالم.
وليس خافياً أن أثر المشروع يتجاوز حدود القدس نفسها، فهو يشطر الضفة الغربية فعلياً إلى قسمين منفصلين؛ شمالي يضم رام الله ونابلس وجنين، وجنوبي يضم بيت لحم والخليل، وإن تم تنفيذ المخطط، فلن يكون هناك أي تواصل طبيعي بين هذين الجزأين إلا عبر طرقٍ ملتوية تسيطر عليها الحواجز العسكرية.
وهكذا تُدفن فكرة الأراضي الفلسطينية المتصلة، ويتحوّل المشهد إلى كانتونات معزولة لا رابط بينها سوى طرق التفافية تخدم المستوطنين بالدرجة الأولى، فهي بالتالي محاولة لفرض واقعٍ دائم لا رجعة فيه، يجعل أراضي الضفة الغربية ممزقة إلى مجرد أشلاء.
بالإضافة إلى ذلك، ففي قلب هذه المنطقة المستهدفة توجد عشرات التجمعات البدوية الفلسطينية، وعلى رأسها خان الأحمر الذي صار رمزًا للصمود الفلسطيني، وهؤلاء الناس ليسوا مجرد عابري سبيل، وإنما هم جزء أصيل من نسيج الأرض، ارتبطوا بها في حياتهم اليومية ورعيهم وتنقلهم.
لكن الاحتلال يرى في وجودهم عقبة أمام مشروعه، ولذلك يحاول اقتلاعهم بكل الوسائل، من أوامر الهدم إلى حرمانهم من أبسط الخدمات، في محاولة لدفعهم إلى الرحيل، فخان الأحمر بمدرسته البسيطة المصنوعة من الإطارات الطينية تحوّل إلى عنوان عالمي يفضح سياسة التهجير القسري، ومعركته صارت معركة على هوية شرقي القدس كلها، فإذا هُدم هذا التجمع، فإن الطريق أمام تنفيذ المشروع سيصبح أكثر سهولة، وسيفتح الباب لتكتلٍ استيطاني يقطع القدس عن الضفة نهائياً.
الموقف القانوني من الاستيطان.. والوعي سلاح المواجهة
من الناحية القانونية لا لبس في الموقف؛ فاتفاقية جنيف الرابعة تحظر النقل القسري للسكان، والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 2004م بشأن الجدار أكد بوضوح عدم شرعية المستوطنات وما يترتب عليها، وقرار مجلس الأمن (2334) جدد التأكيد على أن الاستيطان في الأراضي المحتلة باطل ويشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.
ومع ذلك يمضي الاحتلال في مشروعه متحدياً هذه المرجعيات، لأنه يعرف أن النصوص وحدها لا توقف الجرافات، وأن الشرعية الدولية تبقى بلا معنى ما لم تتحول إلى فعل وضغط وكلفة حقيقية، وهنا تظهر مسؤولية المجتمع الدولي والدول العربية والإسلامية وقبلهم الشعوب: أن يسيجوا القانون بأداة ردع؛ لأن القانون وحده ليس رادعاً في الحالة الصهيونية، وأن يجعلوا لتنفيذ المشروع ثمناً سياسياً واقتصادياً باهظاً لا تستطيع دولة الاحتلال تحمله، بدل أن يظل الأمر مجرد بيانات احتجاج لا تغير من الواقع شيئاً.
ومع ذلك، فإن جوهر المواجهة لا يكمن في القانون وحده، بل يبدأ بالوعي، فالاحتلال يراهن على تعب الناس، وعلى أن يتحول المشروع إلى خبر عابر يمر في نشرات الأخبار ثم يُنسى، لكن حين يدرك الفلسطيني والعربي والمسلم أن مشروع «E1» ليس تفصيلاً صغيراً في مسار الاستيطان، بل هو محاولة لقطع الشريان الأخير لشرقي القدس وشطر الضفة إلى جزأين، فإنه يتحول إلى قضية مركزية لا يمكن تجاوزها، وما أشبه القدس اليوم بجسدٍ تُقطع شرايينه واحداً بعد الآخر، فإذا قُطع شريانها الشرقي، فإنها ستُترك بلا حياة، إلا إذا قاوم أهلها وأمتها هذا المخطط بكل قوة.
إن المواجهة الحقيقية تبدأ من الأرض نفسها، فبقاء الفلسطيني في بيته وأرضه هو السد الأول في وجه الجرافات، وهذا ما يجعل معركة التجمعات البدوية معركة وجودية، فهي لا تخص أهلها وحدهم، بل تخص القدس كلها، وعندما يقف العالم أمام صور الخيام والمدارس البسيطة التي تواجه جرافات عملاقة، فإنه يرى بأم عينه الحقيقة الماثلة بوضوح: أن الاحتلال يشن حربًا على الإنسان قبل الحجر، ومع هذا الصمود، يظل المجال مفتوحاً للتحرك السياسي والقانوني، شرط أن يتحول من خطاب إنشائي إلى إجراءات عملية، من مقاطعة الشركات المتورطة في الاستيطان إلى فضح كل من يحاول شرعنة المشروع.
إن مشروع «E1» ليس مجرد تفصيل في ملف الاستيطان، وإنما هو المشروع الذي يهدد بقطع أوصال فلسطين وتحويل القدس إلى مدينة بلا عمق ولا حياة، وإذا كان الاحتلال يراه مشروعاً إستراتيجياً لمستقبل «عاصمته الموحّدة»، فإن الأمة مطالبة اليوم بأن تراه معركة إستراتيجية على هويتها ومقدساتها، وفي القلب منها المسجد الأقصى المبارك، فالدفاع عن القدس لا يُقاس بعدد المؤتمرات ولا بعدد الشعارات، بل يُقاس بمدى القدرة على منع هذا المشروع من أن يتحول إلى واقع.
إنها معركة وجود بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فإما أن تبقى القدس شرياناً حياً في جسد الأمة، وإما أن تتحول إلى حجرٍ صامت محاصر بجدران الإسمنت، والجواب لا يكتبه الاحتلال وحده، بل يكتبه وعي الناس وصمودهم وإرادتهم، تلك العناصر التي جعلت القدس عبر التاريخ تنهض دائماً من تحت الركام لتعلن أنها ما زالت قلب الأمة النابض مهما ضاق عليها الحصار.
د. عبدالله معروف