قد يعاني المرء في حياته ممن يمكن وصفهم بأعداء النجاح أكثر مما يعاني من الناجحين المنافسين، أو الفاشلين الحاقدين.
لقد قيل قديماً: «المعاصرة حجاب»، وبناء على هذه القاعدة الذهبية كان علماء الجرح والتعديل قديماً يحترزون من تقويم المتعاصرين بعضهم لبعض، وبخاصة فيما يتعلق بالقدح أو الجرح بلغة أهل علم الحديث، فقد يحمل على القدح حسد أو عداء أو كره لأسباب معلومة أو مجهولة، وربما حملت على المدح أسباب خفية كذلك مثل إحسان كبير من الممدوح للمادح، أو اتفاق مذهب من مذاهب الفكر، أو تعصب عرقي أو مذهبي، أو غير ذلك.
وعلم الجرح والتعديل أو علم الرجال كما يقال له كذلك هو ذلك العلم الفذ الذي أنتجته عبقرية الحضارة الإسلامية للحفاظ على دقة النصوص المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية سلامة النقل، وانتظام سلسلته، وما ذلك إلا لأن هذه النصوص هي لبنات بناء دين المسلم، ومنهجه الفكري، بل هي نصوص قانونية ومراجع نصوص قد تستحل بها الدماء والأعراض والأموال.
وفي إطار هذا العلم، وضع العلماء مصطلحات دقيقة، وقواعد مقننة لوزن الرجل المتصدر أو المتصدي لرواية حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والتمييز بينهم، عبر مراحل حياة كل منهم مذ عرف إلى أن لقي وجه الله لاستكشاف أي خلل طرأ على حياته فيما يمكن أن يضعف مصداقيته، أو يهون شأن مروياته.
إن الحسد والتحاسد حقيقة من حقائق النفس البشرية لا ينفك عن ذلك إنسان إلا من رحم ربي، وهو شعور -ككل شعور مركوز في الطبع البشري- يضعف ويقوى، ويعلو ويهبط، ويظهر ويختفي بحسب المواقف والظروف والأحوال شأن غيره من الطبائع النفسية.
وقد تتعدد مصادر الحسد تعدد النعم التي ينعم الله بها على الإنسان، فقد يحسدك البعض لصفات خلقية أو خلقية حباك الله بها، وقد يحسدك لشيء من متاع الدنيا يسره الله لك من زوجة أو مال أو وظيفة وما إلى ذلك، بل قد يحسدك البعض لحب الناس لك وإقبالهم عليك دونه، وعادة ما يكره هذا الحاسد نجاحك لأسباب يعلمها في نفسه تتعلق بك، ويتغاضى عن أي ميزات لك سواء أكانت بعضها أو جميعها من أسباب هذا النجاح أو ممهدات طريقه، ويرى في الوقت ذاته عدم نجاحه محض حظ لم يؤثره كما آثرك، وقد يتعامى في غمرة هذا اللون من التفكير اللامنطقي -أو الخرافي كما يوصف أحيانًا- عن سلبيات قاتلة فيه؛ ما قد يلهيه عن النظر لسلبياته وتداركها للإصلاح من شأن نفسه.
وقد يعادي البعض نجاحك كما يقول العامة في مصر «لله في لله»؛ أي دون أن يكون هناك سبب معلوم أو مفهوم أو مظنون حتى وإن كان أصاب النجاح في ميدان آخر من ميادين الحياة، وكأن أمثال هؤلاء يتصورن أن الحياة لا تتسع لغيرهم، وأن نجاح الآخرين خصم من رصيدهم، ولو فطن هؤلاء، وأزالوا الغشاوات التي على أعينهم لعلموا وأدركوا أن نجاح الناجحين رصيد لبعضهم بعضاً على وجه اليقين لا المجاز، ولله در القائل:
الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خد
فنجاح الطبيب لا يغني عن نجاح المهندس، ونجاح المهندس لا يغني عن نجاح المعلم أو أستاذ الجامعة، ونجاح هؤلاء المرموقين لا يغني عن نجاح العامل البسيط في مصنع أو الحرفي المتواضع في محل حرفته.
إن الفرح بنجاح الآخرين دليل على السلامة النفسية، والثقة بالنفس، والاتزان العقلي والنفسي، وعمق الإيمان، وسمو الروح ورقي الوجدان، إذ يرى المرء في نجاح الآخرين فرصة لا تهديداً، وإضافة للحياة التي هي ملك للجميع لتكون أكثر سهولة ويسراً وسعادة.
د. علاء حسني