تسير الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة نحو أسوأ ما يمكن تصوره، حيث يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في دائرة ضيقة من المعاناة المستمرة، ويواجهون اليوم أزمة إنسانية غير مسبوقة، الحصار المفروض على القطاع منذ نحو شهرين ونصف الشهر، حتى كتابة هذه السطور، وإغلاق المعابر من قبل الكيان الصهيوني، قد أدى إلى انهيار شبه كامل للواقع الحياتي في غزة؛ ما دفع الأوضاع إلى حالة كارثية بلغت حد المجاعة.
في ظل هذا الوضع المأساوي، باتت حياة الفلسطينيين في غزة جحيماً لا يُطاق، حيث اختفت المواد الغذائية الأساسية من الأسواق، ليجد السكان أنفسهم مضطرين للبحث في أكوام القمامة عن أي شيء يسد رمقهم، ومع غياب كامل للمساعدات الإنسانية بسبب الحصار المستمر، تتفاقم معاناتهم يوماً بعد يوم.
غزة بين الجوع والخذلان.. فهل من ناصر؟ | Mugtama
مأساة الدقيق الفاسد
في خضم هذا الواقع المرير، لجأ العديد من سكان غزة إلى تناول الدقيق الفاسد الذي لا يمكن وصفه إلا بأنه يعكس عمق المأساة الإنسانية التي يواجهونها.
الحصار الصهيوني لغزة يقود إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة
السيدة نهى عثمان، التي تعيش في أحد المخيمات العشوائية في مدينة غزة، تحدثت عن معاناتها اليومية في ظل هذا الوضع المأساوي، تقول لـ«المجتمع»: «كل صباح أخرج مع أولادي لأبحث عن أي طعام في الشوارع، لا نجد شيئاً بسبب نفاد كل شيء من الأسواق، ومنع دخول أي مساعدات إنسانية»، هذا الوضع دفعها إلى الوقوف عند أكوام القمامة، بحثاً عن أي طعام قد تجد فيه الأمل!
وفي أحد الأيام، عثرت نهى على نصف كيس من الدقيق المهمل بين النفايات، تقول: «اقتربت منه لأكتشف أنه مليء بالحشرات والسوس، ومدة صلاحيته قد انتهت، لكن لم يكن لديَّ خيار آخر، أخذته على مضض، وبدأت في تنظيفه لتحويله إلى خبز»! وتتابع: «ورغم الأخطار الصحية الناتجة عن تناول هذا الدقيق الفاسد، فإن الجوع والبقاء على قيد الحياة كانا أولويتي».
شبح «مجاعة الطحين» يلتهم غزة! | Mugtama
الدقيق الفاسد بغزة مأساة إضافية في ظل الحصار والجوع
نهى، التي تعيش في خيمة صغيرة لا تحميها من برد الشتاء القارس أو حرارة الصيف، أكدت أن الوضع يزداد صعوبة يوماً بعد يوم، فقدت الأمل في الحصول على الطعام، وصارت تكافح يومياً من أجل توفير لقمة عيش لأطفالها السبعة وزوجها المريض، تضيف: «منذ أكثر من شهرين، لا طعام ولا ماء، وحتى الدواء لزوجي المريض لم يعد متوفراً بسبب الحصار، ابني الصغير، الذي لا يتجاوز عمره عامين، يعاني من سوء التغذية، وحياته أصبحت مهددة».
المعاناة التي تمر بها نهى وأطفالها ليست حالة فردية، بل حال الغالبية العظمى من سكان غزة، في ظل نفاد المواد الغذائية الأساسية من الأسواق، يلجأ البعض إلى بدائل قاسية، مثل طحن البقوليات كالعدس والأرز والمعكرونة، لعلهم يجدون طريقة لتوفير الخبز.
سائد عثمان، أحد السكان الذين يعانون من هذه الأزمة، يوضح لـ«المجتمع» قائلاً: «كل شيء نفد من بيتي، ولم يتبق لي شيء، حاولت شراء كيس دقيق، ولكن السعر ارتفع بشكل غير معقول، حيث أصبح ثمن الكيس 25 كيلوجراماً أكثر من 400 دولار»!
الأسعار المرتفعة جعلت من المستحيل على الكثير من الفلسطينيين شراء المواد الأساسية، عثمان يضيف: «لقد اضطررت إلى البحث عن العدس والمعكرونة في السوق، ولكنني لم أتمكن من شراء ما يكفي لإطعام أسرتي سوى ليومين فقط، بعدها، لن أتمكن من شراء المزيد، حيث لا أملك المال».
غزة تحت أنياب الجوع.. طفولة اغتالتها المجاعة! | Mugtama
تفشي المجاعة
وقد أكدت التقارير الصادرة عن وزارة الصحة في غزة أن المجاعة قد أثرت بشكل كبير على الأطفال، حيث توفي 57 طفلاً نتيجة سوء التغذية، إضافة إلى ذلك، وُلد العديد من الأطفال بتشوهات خلقية بسبب نقص الفيتامينات والمكملات الغذائية الضرورية لنموهم، فالأوضاع الصحية تتدهور بشكل سريع، حيث لا يوجد أي أفق لتخفيف المعاناة في ظل الحصار المستمر.
الارتفاع الجنوني للأسعار يفاقم معاناة العائلات الفلسطينية
أم محمود أبو سعادة، وهي أم لثمانية أطفال، تحدثت لـ«المجتمع» عن معاناتها مع خالتها أم محمد، التي تعاني من جرح طويل لم يلتئم بسبب عدم توفر الأطعمة التي تحتاجها حالتها الصحية، قالت أم محمود: «البلد كله ما فيه بيضة، كيف ستشفى امرأة كبيرة من جروحها بدون طعام جيد؟!».
أم محمود، التي اضطرت للنزوح مع أطفالها من بلدة بني سهيلا القريبة من السياج الأمني الصهيوني في شرق خان يونس، تعيش في معاناة مستمرة، تقول: «لا يعرف الأطفال ما يعنيه الحصار والمجاعة، وكل ما أستطيع تقديمه لهم هو الماء والشاي وبعض الخبز، أعددت آخر عجينة من كيس دقيق وزن 25 كيلو قبل أسبوع، ولا أعرف كيف سأتمكن من تدبير أمرنا بعد ذلك».
وتتابع: «كان الناس في الماضي يقولون: إننا نعيش على الخبز والشاي، لكن حتى أبسط الأشياء لم تعد متوفرة، اختفى الشاي من السوق، وارتفع سعر كيلو السكر من 5 شواكل إلى 50 شيكلاً؛ أي حوالي 13 دولاراً».
«الأونروا» تدق ناقوس الخطر
من جانبها، حذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) من أن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة قد تجاوزت مرحلة الكارثة.
«الأونروا»: 66 ألف طفل في غزة يعانون من سوء التغذية
في تصريحات صحفية، قال عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم «الأونروا»: إن أكثر من 66 ألف طفل في غزة يعانون من سوء تغذية حاد، وإن مئات الآلاف من الفلسطينيين يواجهون الجوع، حيث يتناولون وجبة واحدة كل يومين أو ثلاثة.
وأكدت الوكالة أن خدماتها قد توقفت تقريباً بسبب إغلاق المعابر؛ ما أثر بشكل كبير على قدرتها في تقديم المساعدات الإنسانية.
وفي ظل تدهور الأوضاع، أغلقت معظم التكايا الخيرية التي كانت تقدم الوجبات للمحتاجين، وكان برنامج الأغذية العالمي يزود هذه التكايا بالمواد الغذائية، لكن مع استمرار إغلاق المعابر، توقفت هذه المساعدات، ليجد أكثر من 80% من سكان غزة أنفسهم بلا طعام.
ومنذ الثاني من مارس الماضي، أغلق الكيان الصهيوني المعابر التجارية بشكل كامل، ومنع دخول البضائع إلى قطاع غزة، ورغم النداءات الدولية والإنسانية المستمرة بضرورة إعادة فتح هذه المعابر وإدخال المساعدات الإنسانية، فإن الكيان يتجاهل كافة هذه المناشدات، ومستمر في انتهاك صارخ للقوانين الدولية التي تكفل للإنسان حقه في الحياة وفي الحصول على أبسط مقوماتها.
بهاء الدين