الناس غير متساوين في المواهب والقدرات، وهذا التفاوت يترتب عليه تفاضلهم وتمايزهم فيما بينهم، والبشر بطبيعتهم يُسْلِمون قيادهم -طوعًا أو كرهًا- للمتميزين عليهم في الذكاء أو القوة؛ لأنهم يحتاجون إلى من يقودهم ويسوسهم؛ إذ إن ضريبة الإذعان لمن يقودهم أهون بكثير من ضريبة الفوضى التي تأكل الأخضر واليابس.
لذا قال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وهؤلاء القادة يتوزعون على مجالات شتى؛ فمنهم القائد السياسي، ومنهم القائد الديني، ومنهم القائد المجتمعي، ومنهم القائد العسكري.. إلخ.
القيادة موهبة وصناعة
وهؤلاء القادة قد تظهر عليهم مخايل القيادة من صغرهم؛ ويتوسم فيهم الناس تلك العلامات؛ فقد قال أبو هريرة: رأيت هندًا بمكة ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلامًا إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فأماته الله، وهو معاوية بن أبي سفيان(1)، ومنهم من يُصنع صناعة ليكون قائدًا.
وعليه فإن القيادة مَلَكة وتكوين؛ فنحن نستطيع أن نتعلَّم الأساليب والمهارات وطُرق التخاطب ونحوها بسهولة، ونستطيع -أيضًا- أن نُتقن النظريات والإستراتيجيات والأساليب القيادية من خلال تدريبات قد تكون قصيرة أو طويلة، ولكن الذي لا نستطيع اكتسابه بسهولة هو المشاعر، وسرعة البديهة، والعاطفة، والرغبات، والاهتمام، والتعاطف.. ونحوها من الأمور العاطفية التي تصنع القائد. فهناك أُناس أُلهموا القيادة، وأُناس لم يلهموها، والقائد يُصنع بالتدريب والتعليم وإصقال المهارات والتوجيه(2).
اقرأ أيضاً: معالم في صناعة القائد.. قادة المقاومة نموذجاً
القيادة بلاء
والقيادة قد تكون بلاء لصاحبها ولأتباعه ولخصومه؛ فقد شرب عبدالله بن الزبير دم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «ويل لك من الناس، وويل للناس منك»(3).
فعلم صلى الله عليه وسلم أنه يسري في جميع جسده، فتكتسب جميع أعضائه منه قوى من قوى النبي صلى الله عليه وسلم، فتورثه غاية قوة البدن والقلب، وتكسبه نهاية الشهامة والشجاعة، فلا ينقاد لمن هو دونه بعد ضعف العدل، وقلة ناصره، وتمكُّن الظلمة، وكثرة أعوانهم.
فحصل له ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، من تلك الحروب الهائلة التي تنتهك بها حرمته الناشئة من حرمته صلى الله عليه وسلم، وحرمة البيت العتيق، فقيل له: ويل له؛ لقتله وانتهاك حرمته، وويل لهم؛ لظلمهم وتعديهم عليه، وتسفيههم(4).
الشخصية القيادية بين الفردانية والجماعية
والشخصية القيادية قد تكون شخصية فردية تعمل بمفردها وفق رؤيتها، ولا تطيق العمل ضمن فريق، وهناك شخصية قيادية تعمل ضمن فريق عمل، وتُحْسِن توظيف الطاقات والشخصيات المحيطة بها، فـفي بعض الأحيان قد يعاني القائد الرغبة في إظهار القوة، وفرض السيطرة؛ ممّا يُؤثِّر كثيرًا في سير العمل، علمًا بأنَّ الشراكة الصحِّية بين القائد والفريق تُبنى على روابط اتِّصال متينة وفَعَّالة، وعدم اتِّصالها يُؤدِّي إلى زعزعة الثقة، وانعدام الشعور بالتقدير، ومن ثَمَّ التأثير في المعنويات والأداء العامِّ للفريق(5).
اقرأ أيضاً: بين القيادة والقدوة في ضوء سورة «يوسف»
صناعة القادة صناعة ثقيلة
والقيادة الناجحة تحتاج إلى زمان طويل، وخبرات مكتسبة، وتجارب مختلفة، وعثرات وكبوات؛ ليصل إلى الحنكة المطلوبة، وسداد الرأي، وحُسْن التوجيه، والنظرة الاستشرافية.
وتقوم الحركات والأحزاب والجماعات على الشخصيات القيادية وتتأسس بهم، ولكي تنمو هذه الكيانات فإنها تحتاج إلى قادة يحملون الهمَّ، ويُكملون المسيرة، ويطوِّرون الأداء والأفكار والأساليب، ويقوِّمون المعوج، ويصححون المسار، ويراجعون الأهداف والغايات والأفكار.. إلخ.
وهؤلاء القادة الجدد يحتاجون لمحاضن ترعاهم، وتعمل على صناعتهم، أو صقل مهارتهم، ثم الدفع بهم للصدارة، وللوصول إلى مرحلة الصدارة يكون قد تم بذل الجهد الجهيد والمال الكثير والوقت العزيز، ويصبح الحفاظ على هؤلاء القادة قيمة في حد ذاتها، ويكون فقدهم مصيبة من المصائب.
مصيبة فقْد القادة
فقد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم لمقتل عمه حمزة بن عبد المطلب في غزوة «أُحد» وقال: «لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِك أَبَدًا، مَا وَقَفْتُ مَوْقِفًا قَطُّ أَغْيَظ إلَيَّ مِنْ هَذَا»(6).
التفريط بالقادة
ولكنه تأتي على تلك الكيانات مرحلة من المراحل وتضيق ببعض قادتها، بل وتعمل على التخلص منهم بشتى الصور والطرق، ويكون ذلك عند اختلاف وجهات النظر؛ فيتم هدر كل هذه الطاقات المؤثرة والخبرات الطويلة والجهود المبذولة لصناعة هؤلاء القادة، وأحيانًا في بعض مراحل تلك الكيانات فإنها لا تقبل هؤلاء القادة المميزين في داخلها؛ خوفًا على كياناتهم مما يُظن ويُتوهَّم من تغيير المسار، فتعمل على فرم هؤلاء فرمًا من خلال التهميش، أو التشويه، أو الفصل.. إلخ.
التفريط جناية
وهنا تكون الجناية على تلك الكيانات؛ فتضعف بعد قوة، وتتشتت بعد التئام، وتتنازع بعد اتفاق، وتتفرَّق بعد وحدة.. إلخ، فإذا عصفت المحن بتلك الكيانات لم تستطع أن تواجهها؛ فلا المتصدرون قادة بحق، ولا القادة المميزون في أيديهم أدوات المواجهة، ولا الأتباع نجحوا في تغيير هؤلاء المتصدرين وإعادة القادة المميزين؛ فيكون العجز عنوان المرحلة، حتى يملك القادة الحقيقيون والأتباع المخلصون القدرة على التغيير، فيتغير الواقع.
______________________
(1) تاريخ دمشق (70/ 174) باختصار.
(2) بعجي سعاد: دور القيم الأخلاقية في صناعة شخصية القائد الإداري من منظور إسلامي، مجلة دراسات اقتصادية، جامعة الجلفة، المجلد(18)، العدد (1)، 2020م، ص150.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك، ح(6343).
(4) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، (5/ 547).
(5) م. فاتن دراج: الشخصية القيادية في العمل: ميزات تلهم الفريق وعيوب يجب الحذر منها، 17 ديسمبر 2024، الشارقة 24، https://sharjah24.ae/ar/Articles/2024/12/17/NJ1-546.
(6) سيرة ابن هشام (2/ 96).
محمد فتحي النادي