لقد باتت الحرب النفسية إحدى أبرز الأدوات التي تستخدمها الأطراف المتنازعة لزعزعة معنويات الخصم، وتوجيه الرأي العام المحلي والدولي، وبث الرسائل التي تخدم الأهداف الإستراتيجية دون إطلاق رصاصة واحدة، في هذا السياق، تتجلى أهمية فهم أبعاد الحرب النفسية كعامل فاعل ومؤثر في مسار الحروب الحديثة.
إن الحديث عن تفوق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في مجال الحرب النفسية يثير الكثير من الانتباه، خاصة حين يأتي على لسان الإعلام «الإسرائيلي» نفسه، فـ«إسرائيل» التي لطالما سعت لفرض هيمنتها في جميع مجالات الصراع، بما فيها الإعلام والتأثير النفسي، تجد نفسها الآن، وبحسب ما تعترف به مؤسساتها الإعلامية وخبراؤها، في موقع المتلقي بدل المبادر، وهو ما يعكس تحولًا لافتًا في موازين المواجهة غير التقليدية.
اعتراف «إسرائيلي» نادر: تفوق «حماس» في الحرب النفسية
في تقرير بثته «القناة 13» العبرية، تم تسليط الضوء على نجاحات متراكمة حققتها «حماس» في مجال الحرب النفسية، معتبرة أن الحركة نجحت في فرض أجندتها النفسية على «إسرائيل»، مستغلة وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لنقل رسائلها بشكل ذكي ومدروس، وأشارت القناة إلى أن «حماس»، على مدار 30 عامًا، طوّرت أدواتها وأساليبها في التأثير النفسي، مستفيدة من تجاربها السابقة ومواكبتها للتقنيات الحديثة.
أحد أبرز الأمثلة التي تم تناولها هو كيفية تعامل «حماس» مع ملف الأسرى «الإسرائيليين»، حيث اعتبرت القناة أن الحركة تمارس لعبة مزدوجة تنجح من خلالها في إرباك صانع القرار «الإسرائيلي» وفرض ضغط نفسي مستمر على المجتمع، دون أن تقع في فخ الاستنزاف الإعلامي.
غياب المبادرة «الإسرائيلية» مقابل ديناميكية «حماس»
هذا الاعتراف الإعلامي لا يقف عند حدود التوصيف، بل يشير إلى خللٍ بنيوي في الأداء «الإسرائيلي»، يتمثل في غياب المبادرة والاكتفاء بردود الفعل، فبينما تتصرف «حماس» بمرونة وديناميكية، وتبادر بإرسال الرسائل النفسية في توقيتات مدروسة، تبدو «إسرائيل» وكأنها تلاحق الأحداث دون قدرة على صناعة رأي عام داعم أو مواجهة فعالة لحرب الوعي التي تديرها المقاومة.
إن هذا التحول في ميدان التأثير النفسي لا يعكس فقط نجاحًا تكتيكيًا لـ«حماس»، بل يفتح تساؤلات كبرى حول مدى جهوزية «إسرائيل» لمواجهة تحديات إعلامية ونفسية تتجاوز حدود الدبابات والطائرات.
أدوات الحرب النفسية لدى «حماس»
لا يأتي تفوق «حماس» في الحرب النفسية من فراغ، بل هو نتاج منظومة متكاملة من الأدوات والإستراتيجيات التي تُستخدم بذكاء ودقة، لتصل رسائلها إلى أعماق وعي الخصم، وتؤثر في الرأي العام المحلي والدولي على حد سواء، وفيما يلي أبرز هذه الأدوات:
1- استثمار الإعلام التقليدي والرقمي:
أدركت «حماس» مبكرًا أن السيطرة على المعلومة لا تقل أهمية عن السيطرة على الأرض، فاستثمرت في الإعلام التقليدي مثل القنوات الفضائية والصحف، لكنها برعت أكثر في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تصل رسائلها بسرعة خاطفة، وتتفاعل مع الأحداث بلحظتها، وتوجه خطابًا عاطفيًا ومؤثرًا يخاطب الجماهير بلغتها.
2- التأثير من خلال مشاهد الأسرى وجثث الجنود:
بث صور الجنود الأسرى أو تسليم جثثهم في توقيتات دقيقة ليس مجرد عمل إنساني أو تبادل تقني، بل هو سلاح نفسي ثقيل، هذه المشاهد تهز الشارع «الإسرائيلي»، وتثير تساؤلات داخل المجتمع حول جدوى الحرب، وتُظهر «حماس» كقوة منضبطة تتحكم بزمام الأمور، في مقابل ارتباك الخصم.
3- الرمزية والرسائل النفسية في توقيتات محددة:
«حماس» تتقن اختيار التوقيت، وتعلم أن الرسالة في وقت معين قد تساوي ألف رسالة في وقت آخر، سواء كانت كلمة متلفزة، أو صورة مُسرّبة، أو صمتاً مقصوداً، فإن كل خطوة مدروسة بعناية لتحدث أكبر تأثير نفسي ممكن، وتربك حسابات الطرف الآخر.
رداءة الأداء «الإسرائيلي» في مواجهة الوعي
في مقابل هذا الأداء المتصاعد لـ«حماس»، تبدو «إسرائيل» وكأنها تُقاتل في ساحة لا تُجيد أدواتها، وتعاني من فجوة واضحة في مجال التأثير النفسي.
1- التركيز على الحرب الميدانية وإهمال المعركة المعنوية:
رغم تفوقها التقني والعسكري، ما زالت «إسرائيل» تُراهن على القوة النارية، متجاهلة أن الحروب الحديثة تُكسب عبر كسب العقول لا الأرض فقط، هذا الإهمال للبعد النفسي جعلها تتلقى الضربات المعنوية دون قدرة حقيقية على الرد.
2- تأخر الاستجابة «الإسرائيلية» وفقدان زمام المبادرة:
الإعلام «الإسرائيلي» غالبًا ما يظهر متأخرًا في الرد أو التوضيح؛ ما يسمح لـ«حماس» بأن تفرض روايتها أولًا، وفي عالم تتسابق فيه الأخبار وتُستهلك بسرعة، من يسبق في طرح الرواية يكسب التأثير، وهكذا فقدت «إسرائيل» القدرة على المبادرة، وباتت تتحرك وفق ما ترسمه «حماس» من مشاهد وسيناريوهات.
تحولات في المزاج الشعبي «الإسرائيلي»
أحد أبرز مؤشرات نجاح الحرب النفسية هو الاضطراب الداخلي لدى الجمهور المعادي، وهو ما رصدته استطلاعات الرأي الأخيرة داخل «إسرائيل»، حين يظهر أن أكثر من نصف «الإسرائيليين» مستعدون لتقديم تنازلات مؤلمة –مثل إطلاق سراح أسرى وإنهاء الحرب– مقابل استعادة الجنود، فهذا يُظهر بوضوح أن المعركة لم تعد فقط على حدود غزة، بل أصبحت في عمق الوعي «الإسرائيلي».
هذه التحولات ليست وليدة الصدفة، بل نتيجة تراكمات نفسية ممنهجة مارستها «حماس»، أدت إلى تآكل الثقة بالقيادة، وزعزعة الرواية الرسمية، وبروز أسئلة وجودية داخل المجتمع: هل الحرب تحقق أهدافها؟ من يُمسك فعلاً بخيوط اللعبة؟
ليس من السهل أن تعترف آلة الإعلام «الإسرائيلي» التي بُنيت على التهويل والبروباغندا بأن خصمها يتفوق عليها، لكن هذا ما حدث من «القناة 13» إلى تصريحات خبراء في الدبلوماسية الإستراتيجية، تكررت الاعترافات الصادمة:
– «حماس» تسبقنا بخطوة، وتفرض علينا التفاعل بدل المبادرة.
– نخسر في ميدان التأثير حتى ونحن نكسب في العمليات.
هذه الاعترافات ليست مجرد نقد ذاتي عابر، بل مؤشرات على خلل بنيوي في إدارة الحرب النفسية «الإسرائيلية»، تعكس مدى فعالية التكتيكات التي تنتهجها «حماس»، التي تراكمت خلال سنوات طويلة من الخبرة في الصراع غير المتكافئ.
«حماس» ومعركة الوعي.. دروس من مدرسة المقاومة
ما يميز تجربة «حماس» في الحرب النفسية أنها ليست ارتجالية، بل مبنية على فهم دقيق لخصائص العدو، ولطبيعة الصراع في العصر الرقمي، لقد نجحت الحركة في الجمع بين البعد العقائدي والرمزية الدينية، مع أدوات العصر الحديث من تكنولوجيا الإعلام، لتقدم نموذجًا جديدًا في إدارة معركة الوعي.
إنها تخاطب المجتمع «الإسرائيلي» بلغته، وتضرب في نقاط ضعفه، وتُظهر الوجه المظلم لآلة الاحتلال أمام العالم، وفي المقابل، تحرص على بناء صورة إيجابية أمام جمهورها، تُكرّس مفاهيم الصمود، والكرامة، والنصر المعنوي، حتى في أحلك الظروف.
ففي عالمٍ لم تعد فيه الحرب تُقاس بعدد الصواريخ بل بمدى التأثير، برزت «حماس» كمثال حي على قدرة التنظيمات غير التقليدية على قلب موازين القوى عبر الحرب النفسية، هذا التفوق لا يعني فقط نجاحها في التأثير على عدوها، بل يعني أنها تملك زمام المبادرة في الجبهة الأهم؛ جبهة العقول والمشاعر والتصورات.
وإذا كانت «إسرائيل» اليوم تُقرّ بتراجعها في هذا الميدان، فإن المستقبل يحمل إشارات إلى أن من يفوز بالحرب النفسية قد يُمهّد الطريق للنصر في ميادين أخرى.
الواثق بالله