يعيش فلسطينيّو الداخل واقعًا مريرًا في ظل تصاعد القمع الصهيوني، الذي يتخذ أشكالًا متعددة تهدف إلى تقويض أي شكل من أشكال التعبير السياسي والمقاومة السلمية.
وتسعى دولة الكيان، على نحوٍ منهجي منذ 7 أكتوبر 2023م، إلى فرض سياسات القمع والترهيب في الداخل الفلسطيني المحتل، وتعمل على إخراس أي محاولة للتعبير عن مواقف معارضة لحرب الإبادة في غزة، أو الاحتجاج على القتل والدمار، فمنذ اليوم الأول للحرب، منعت السلطات الصهيونية التظاهرات، واعتقلت عشرات المواطنين الفلسطينيين على خلفية منشورات في وسائل التواصل، بزعم أنها تعبّر عن تأييد أو تعاطف مع غزة وسكّانها.
الدولة الصهيونية تمارس سياسة كي الوعي ومحو الذاكرة والسيطرة على الانتماء الفلسطيني
وتعمل دولة الكيان، على توسيع سياسات القمع والترهيب بحق الفلسطينيين في الداخل، وتكثيف أشكال القمع الجماعي والفردي، بما يشمل محاولات محو الذاكرة والسيطرة على الوعي والانتماء من خلال:
– حملات الاعتقال والملاحقة السياسية:
منذ بداية حرب «طوفان الأقصى»، شهدت البلدات العربية في الداخل الفلسطيني تصعيدًا غير مسبوق في حملات الاعتقال والملاحقة من قبل الجيش والشرطة الصهيونية، حيث تم اعتقال المئات من الفلسطينيين، بينهم نشطاء وفنانون وأعضاء في الكنيست، بتهم تتعلق بـ«التحريض» و«مناصرة الإرهاب»، لمجرد نشرهم منشورات تضامنية مع غزة أو التعبير عن مواقفهم السياسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
– تعديل قانون «مكافحة الإرهاب» وتوسيع دائرة التجريم:
في خطوة تهدف إلى تقييد حرية التعبير، صادق الكنيست الصهيوني على تعديل قانون «مكافحة الإرهاب» لعام 2016م، الذي يجرّم مجرد الاطلاع على «مواد إرهابية»، مع عقوبة قد تصل إلى السجن لمدة عام، وهذا التعديل يفتح الباب أمام ملاحقة الأفراد لمجرد متابعتهم لحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تُعتبر داعمة لـ«الإرهاب» في نظرهم.
– استهداف الأحزاب السياسية الفلسطينية:
لم تسلم الأحزاب السياسية الفلسطينية من هذا القمع، فحزب «التجمع الوطني الديمقراطي»، على سبيل المثال، تعرض لاعتقالات جماعية لأعضائه، بمن في ذلك رئيسه عوض عبدالفتاح، ومداهمة مقره ومصادرة مستندات، في محاولة لتخويف المجتمع الفلسطيني وتقويض العمل السياسي المنظم.
– الترهيب الاجتماعي والتضييق على الحياة اليومية:
القمع لا يقتصر على المجال السياسي فقط، بل امتد ليشمل الحياة اليومية للمواطنين الفلسطينيين في الداخل، وتجري عمليات تفتيش مكثفة للهواتف المحمولة، وتُفرض قيود على حرية التنقل، وتُمنع الاحتجاجات السلمية؛ ما يخلق أجواء من الخوف والترهيب تدفع العديد من الفلسطينيين إلى فرض رقابة ذاتية على أنفسهم.
– استهداف الإعلام والمحتوى الرقمي:
قامت الشرطة الصهيونية بإغلاق العديد من الصفحات والمجموعات على منصات التواصل الاجتماعي، بحجة نشر «محتوى تحريضي»، فعلى سبيل المثال، تم إغلاق صفحة «فلسطينيو الداخل» على «فيسبوك»، التي كانت تُعد منصة رئيسة للتعبير عن الرأي والمواقف السياسية، كما تعرض العديد من الصحفيين والمراسلين للاعتقال والاستجواب بسبب تغطياتهم للأحداث الجارية.
تعزيز الرقابة على المناهج الدراسية خاصة تلك التي تتعلق بالتاريخ الفلسطيني والهوية الوطنية
– التضييق على التعليم والبحث الأكاديمي:
تعرضت المؤسسات التعليمية في الداخل الفلسطيني لضغوطات متزايدة، وتم فرض رقابة على المناهج الدراسية، خاصة تلك التي تتعلق بالتاريخ الفلسطيني والهوية الوطنية، كما تم منع العديد من الأنشطة الطلابية التي تُعبر عن المواقف السياسية، مثل تنظيم الندوات والمحاضرات الثقافية والسياسية.
– التضييق على جمعيات المجتمع المدني:
في سياق محاولات التضييق على العمل السياسي ومحاولات مناهضة سياسات التمييز والقمع التي تُمارَس ضد المواطنين الفلسطينيين، برزت خطوة تشريعية إضافية تهدف إلى تقييد عمل مؤسسات المجتمع المدني، لا سيّما المؤسسات العربية الناشطة في مجال حقوق الإنسان، ففي فبراير الماضي، صادقت الهيئة العامة للكنيست، في قراءة تمهيدية، على مقترح قانون خاص قدّمه عضو الكنيست عن الليكود أريئيل كالنر، لتعديل قانون الجمعيات، تحت عنوان «تبرّعات للجمعيات من كيانات سياسية أجنبية، لسنة 2024»، ويقترح هذا التعديل فرض قيود مشدّدة على الجمعيات التي تتلقى تمويلاً من دول أو كيانات سياسية أجنبية؛ ما يُشكل تهديداً مباشراً لحيز النشاط المدني وخصوصاً للجمعيات التي توثّق الانتهاكات الصهيونية أو تنتقد السياسات الحكومية.
فرض قيود مشدّدة على الجمعيات التي تتلقى تمويلاً من دول أو كيانات سياسية أجنبية
– التضييق على النشاطات الثقافية والفنية:
تعرضت الأنشطة الثقافية والفنية الفلسطينية في الداخل لقيود متزايدة، وتم منع العديد من العروض المسرحية والسينمائية التي تتناول قضايا فلسطينية، بحجة أنها «تحرض على العنف»، كما تم فرض رقابة على الكتب والمطبوعات، ومنع توزيع العديد منها.
– تعزيز دور المخابرات في الحياة اليومية:
أصبح جهاز «الشاباك» الصهيوني يمارس دورًا متزايدًا في مراقبة الفلسطينيين في الداخل، وتم توسيع صلاحياته لتشمل مراقبة الأنشطة الاجتماعية والثقافية، وليس فقط السياسية، كما تم تجنيد العديد من العملاء المحليين لذلك؛ ما خلق حالة من الشك وعدم الثقة داخل المجتمع.
– محاولات تذويب الهوية الوطنية:
سعت السلطات الصهيونية إلى تنفيذ سياسات تهدف إلى تذويب الهوية الوطنية الفلسطينية، من خلال تشجيع الاندماج في المجتمع الصهيوني وتقديم حوافز اقتصادية واجتماعية، في محاولة لتقليل الارتباط بالقضية الفلسطينية، كما تم تهميش اللغة العربية في العديد من المجالات الرسمية والتعليمية.
– تقييد حرية التنقل والتجمع:
فرضت السلطات الصهيونية قيودًا صارمة على حرية التنقل والتجمع للفلسطينيين في الداخل، ومنعت تنظيم العديد من المسيرات والاحتجاجات السلمية، بحجة الحفاظ على النظام العام، كما فرضت قيودًا على السفر إلى الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ما أثر سلبًا على الروابط الأسرية والاجتماعية.
الآثار النفسية والاجتماعية
لقد أثرت هذه السياسات بشكل عميق على الصحة النفسية والاجتماعية للفلسطينيين في الداخل، فعززت لديهم القلق المستمر، والخوف من الاعتقال، وتدمير النسيج الاجتماعي، وكلها عوامل تؤدي إلى تآكل الثقة بين الأفراد وتدمير الأمل في المستقبل، خاصة بين الشباب والأطفال الذين نشؤوا في بيئة مليئة بالترهيب والقمع.
المقاومة والصمود ومواجهة القمع
رغم هذه السياسات القمعية، يواصل الفلسطينيون في الداخل مقاومة محاولات إسكاتهم، ورغم التحديات يواصلون مواجهة محاولات قمعهم عبر تنظيم الاحتجاجات، ورفع الشعارات المطالبة بالحقوق والمساواة، وبذل الجهود للحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية.
هذه المقاومة السلمية تُظهر إصرار الفلسطينيين على رفض القمع والتمسك بحقوقهم المشروعة، وتُعد نموذجًا للصمود في وجه محاولات الإخضاع، كما أسسوا العديد من المنظمات غير الحكومية التي تعمل على تعزيز حقوق الإنسان، وتوثيق الانتهاكات، وتقديم الدعم القانوني للمتضررين، ونظموا حملات توعية وورش عمل لرفع الوعي بالقضايا السياسية والاجتماعية.
إن ما يحدث لفلسطينيي الداخل ليس مجرد قمع سياسي، بل هو محاولة ممنهجة لإعادة رسم حدود العمل السياسي الفلسطيني بالترهيب، لكن وكما أظهرت التجارب السابقة، فإن هذا القمع يولّد مزيدًا من الإصرار على المقاومة والصمود، ويُثبت أن الفلسطينيين في الداخل سيظلون جزءًا لا يتجزأ من نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة.
إياد القطراوي