بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فإن موضوع مشاركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في حرب التحرير أو عدم مشاركتها قد أخذ حيّزا كبيرا من الحديث وردود الأفعال بين القائلين بمشاركتها وتفاعلها معها وتأييدها لمن قاموا بها، وبين من ينفي ذلك عنها، بل وينفي أي دور لها فيها، وأسال هذا الموضوع حبرا كثيرا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قيمة هذه الجمعية ومكانتها العالية التي تبوأتها بين الجزائريين، وما قدمه رجالها المؤسسون ومن جاؤوا بعدهم لهذا البلد من أعمال عظيمة وخدمات جليلة لا يمكن التغاضي عنها ونسيانها، ولولا ذلك ما قالوا فيها ما قالوا ، لأنهم يعرفون قدرها وقيمتها وتأثيرها القوي ويعرفون قدر رجالها المؤسسين الذين غيروا وجه الجزائر بعد تأسيس الجمعية التي ما أسسوها إلا لخدمة هذا البلد وتخليصه من براثن الاستعمار الغاشم.
أذكر أنني في بداية تسعينيات القرن الماضي أي بعد الانفتاح الذي حصل في بلادنا التقيت في الحج مع إحدى الشخصيات السياسية المهمة في بلادنا وهو أول رئيس حكومة بعد الاستقلال السيد بن يوسف بن خدة وطرحت عليه عدة أسئلة تتعلق بالثورة والاستقلال وغير ذلك ومن بين الأسئلة التي طرحتها عليه كما أذكر سؤال عن موقف الجمعية من الثورة وعن مشاركتها فيها، فكان جوابه مفاجئا لي وهو أنها لم يكن لها دور وأنها لم تشارك وأن عمل الجمعية كان منحصرا في التعليم والتربية ولا تتدخل في السياسة، وموقفه هذا ليس سرا لأنه صرح به قبل ذلك أو بعد ذلك على شاشة التلفزيون.
وهذا الكلام ليس هو كلام بن يوسف بن خدة وحده، بل الكثير من المجاهدين ورجال السياسة يرددونه حيث يرون بأن الجمعية كان دورها محصورا في التربية والتعليم، ولم يكن لها أي دور في حرب التحرير، وذهب البعض إلى أبعد من ذلك حيث زعم أنها كانت ضد الثورة.
ومن هؤلاء الرئيس الأسبق محمد بوضياف أحد مفجري الثورة وأحد رجالها الكبار، فقد نفى أن تكون جمعية العلماء المسلمين لعبت دورا داعما خلال حرب التحرير، بل ذهب إلى القول بأن «الجمعية لم تكن تؤمن بأن هناك شبابا في الجزائر يمكن أن يقوم بعمل مسلح ضد فرنسا» وأضاف بأن «رئيس الجمعية آنذاك الشيخ البشير الإبراهيمي قبل خمسة عشر يوما من اندلاع الثورة قال بأن الشعب لم يكن مهيئا للثورة».
وهو الموقف نفسه لعبد السلام بلعيد رئيس الحكومة الأسبق ووزير الاقتصاد في حقبة الرئيس الراحل هواري بومدين الذي أفصح عنه في مذكراته حيث قال بأن «الشيخ البشير الإبراهيمي رفض دعم حركة الشباب التي استهدفت التحرر من فرنسا الاستعمارية سنة 1954 «.
ومن هؤلاء أيضا المجاهد عمار بن عودة الذي انتقد موقف الجمعية من الثورة بنقل حادثة تدل على ما ذهب إليه بأن الجمعية لم تشارك وأكثر من ذلك أنها كانت ضد الثورة، وهذه الحادثة التي يستشهد بها تقول إن الشيخ العربي التبسي الشهيد نائب رئيس جمعية العلماء بينما كان عائدا إلى أرض الوطن من رحلة الحج مر على القاهرة حيث كان الشيخ البشير الإبراهيمي مقيما هناك، فالتقى به وقال له: الحقوا بالثورة فرده الشيخ البشير الإبراهيمي ردا عنيفا، فهذه الحادثة يعتبرها المجاهد عمار بن عودة دليلا على أن الجمعية ممثلة في رئيسها كانت ضد الثورة، ولكن هذا الدليل لا يسلم لعمار بن عودة لأن عودة الشيخ العربي التبسي كانت قبل اندلاع الثورة المباركة في غرة نوفمبر، وكانت بالذات يوم 5 أكتوبر كما نشر ذلك في الصحافة ومنها جريدة البصائر.
ويضيف أصحاب هذا الرأي إلى ذلك أن جبهة التحرير الوطني التي فجرت الثورة انتدبت عبان رمضان لإقناع الأحزاب والجمعيات للالتحاق بالثورة، ومن بين الأحزاب والجمعيات التي اتصل بها جمعية العلماء المسلمين ولكنه لم يجد استجابة منها بل ظل موقفها متحفظا إزاء جبهة التحرير الوطني وكان الاستثناء الوحيد كما يقول هؤلاء هو الشيخ العربي التبسي الذي غيّر موقفه بمساندته لجبهة التحرير الوطني وفهمه بأن النضال في الإطار القانوني (أي القانون الفرنسي) يعدّ من الماضي، ولذلك تم اغتياله على يد السلطات الفرنسية.
ومن الأدلة التي استند إليها أصحاب هذا الرأي القائل بعدم مشاركة الجمعية في حرب التحرير بل ووقوفها ضدها مقال نشر في جريدة (البصائر) بتاريخ 5 نوفمبر 1954 تحت عنوان (حوادث الليلة الليلاء) جاء فيه: «فوجئت البلاد بحوادث مزعجة حدثت بين الساعة الواحدة والخامسة صباحا غرة نوفمبر، الحوادث: 30 حادثا ما بين الحدود التونسية وشرقي عمالة وهران، ولكن عمالة قسنطينة وبخاصة الناحية الجنوبية كانت صاحبة المقام الأول، وقد شملت هذه الحوادث الأوراس وبلاد القبائل والجزائر العاصمة وبوفاريك، إننا لا نملك التفاصيل المقنعة عن هذه الحوادث ولا أسبابها وليس بين أيدينا إلا ما تناقلته الصحف والشركات الفرنسية (الإعلام الفرنسي)، ولذلك لا نستطيع أن نعلق عليها».
هذا المقال استشهد به بعضهم على أن جمعية العلماء لم يكن لها اطلاع على ما يحدث في الجزائر ولذلك فوجئت مع من فوجئ بالأحداث، وكذلك سمتها حوادث مزعجة، بالإضافة إلى أنها تزعم أنها لم تعرف أسبابها مع أن الأسباب واضحة وهي الاستعمار وما يقوم به من ظلم وانتهاكات واحتلال للبلد وما إلى ذلك.
هذه بعض الأقوال من بعض رجال حزب جبهة التحرير الوطني وكلها تتهم جمعية العلماء المسلمين ورئيسها الشيخ البشير الإبراهيمي بعدم المشاركة في ثورة التحرير وعدم المساندة بل واتهامهم بالوقوف ضدها.
ولكن أعضاء الجمعية وأنصارها يردون على هذه الاتهامات بالنفي ويؤكدون بأن الجمعية شاركت في الثورة ودعت إليها والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1ـ عقد المجلس الإداري لجمعية العلماء في دورة عادية في الفاتح من نوفمبر 1954 وقرروا أن يكون مع الثورة، ودعوا الشباب ليكون مع الثورة كما نقل ذلك أحمد توفيق المدني في كتابه (حياة كفاح).
2 ـ في الثاني من نوفمبر قام رئيس الجمعية الشيخ البشير الإبراهيمي بمعية الفضيل الورتلاني بإصدار بيان جاء فيه عن الشيخ الإبراهيمي بأن الأخبار قد جاءت باندلاع ثورة مباركة ضد فرنسا وأعلن تأييده لها .
3 ـ الشيخ الورتلاني يصدر في 3 نوفمبر بيانا في تأييد الثورة قدمه باسمه وباسم رئيس الجمعية الشيخ البشير الإبراهيمي جاء فيه: «إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر اليوم حياة أو موت، بقاء أو فناء، حياكم الله أيها الثائرون الأبطال وبارك في جهادكم وأمدكم بنصره وتوفيقه، إن فرنسا لم تترك لكم دينا ولا دنيا، فأوقافكم مصادرة لم يبق فيها أثر ولا عين، ومساجدكم حولت إلى كنائس ومرافق عامة، وأرضكم الغنية مغصوبة وأعراضكم مستباحة.»
كما أن الشيخ الورتلاني حرر بيان مساندة في 15 نوفمبر أي أياما فقط بعد انطلاق الثورة، وهو دليل دامغ على بطلان دعوى عدم مشاركة الجمعية في الثورة.
ومن الجدير بالتنبيه أن بيانات الشيخ البشير الإبراهيمي اعتبرت آنذاك فتوى شرعية للجهاد في سبيل الله ضد فرنسا .
بالإضافة إلى هذا كله التحاق أعداد كبيرة من تلاميذ الجمعية وخريجي مدارسها بالثورة المباركة وهذا أمر لا شك فيه ولا جدال ، وقد دخلوا أفرادا في الأول ثم انضموا بعد ذلك إلى جبهة التحرير في سنة 1956، وقد استشهد منهم الكثير في المعركة.
ولذلك نستطيع القول بأن جمعية العلماء المسلمين ظلمت كثيرا عندما اتهمت بعدم المشاركة في الثورة ولا بالدعوة إليها ولا دعمها، وكيف سوغت لهؤلاء أنفسهم ذلك ؟ وكيف تكون الجمعية ضد الثورة أو ضد أي مقاومة ضد فرنسا، وهي في كل بياناتها تشيد وتنوه بالمقاومة الشعبية البطولية التي واجهتها فرنسا في الجزائر خلال قرن وربع قرن وتقوم بتصوير حالة الحرمان والفقر التي يعيشها الجزائريون تحت الاحتلال الفرنسي، وأن هذه الحالة لا يمكن أن تزول إلا بزوال الاستعمار الذي هو سبب كل ما يعانيه الجزائريون.
د. إبراهيم التهامي