جميع الحقوق محفوطة لموقع الشبكة الجزائرية نت 2008 .. 2025
الرئيسية 8 الشبكة الاخبارية 8 أخبار دولية 8 خطة بلير لإدارة غزة.. وصاية دولية تشرعن الاحتلال وتغتال تقرير المصير

خطة بلير لإدارة غزة.. وصاية دولية تشرعن الاحتلال وتغتال تقرير المصير

بينما يواصل الاحتلال الصهيوني حرب الإبادة الشاملة على قطاع غزة، وتتصاعد أرقام الضحايا لتصل أكثر من 65 ألف شهيد و168 ألف جريح وآلاف المفقودين، تُدار خلف الكواليس معركة أخرى لا تقلّ أهمية: من سيحكم غزة بعد الحرب؟

خطة تولي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، إنشاء «السلطة الانتقالية الدولية لغزة” (GITA) لا تبدو مجردَ مقترحٍ لإعادة الإعمار، بل مشروعًا سياسيًا شاملًا يطرح وصاية دولية على القطاع تحت غطاء أممي وقانوني، وما تكشفه الوثائق وتحليل الهياكل والميزانيات المقترحة يثير أسئلةً جديةً حول النوايا والنتائج المحتملة.

تقوم خطة بلير على إنشاء سلطة عليا تعمل بموجب تفويض من مجلس الأمن لمدة انتقالية محددة لخمس سنوات، تُدار بواسطة مجلس دولي مكوّن من سبعة إلى عشرة أعضاء، يضم ــ بحسب النسخة المتاحة من الوثائق ــ ممثلاً فلسطينياً رمزياً إلى جانب شخصيات دولية وغربية ورجال أعمال. بحيث لا تعد هذه الهيئة مجرد جهاز فني لإدارة المشاريع، بل “سلطة سياسية وقانونية عليا” تصدر تشريعات ملزمة وتراقب كل أجهزة الحكم والإدارة في غزة.

الأمانة التنفيذية المقترحة ستشرف على الوزارات التي تُنسب إليها مهام الخدمات، لكن هذه السلطة التنفيذية الفلسطينية المحلية ستكون مُشكَّلة من تكنوقراط تُعيّنها وتُراقبها الهيئة الدولية.

على الصعيد الأمني، تنص الخطة على وجود قوة أمنية متعددة الجنسيات لحماية الحدود والمعابر ووحدة شرطة مدنية محلية «منزوعة السلاح».

اقتصادياً، تُقام هيئة استثمار وتنمية (GIPEDA) تقود مناطق اقتصادية خاصة وتُجذب رؤوس الأموال الأجنبية لتولي «إعادة الإعمار» وفق منطق استثماري.

الأمن قبل الإعمار، والإدارة من الخارج قبل الاستقلال.. هذا مختصر تفاصيل الميزانية التشغيلية التي تظهر أولوية أمنية واضحة: مخصصات كبيرة للشرطة المدنية والهيئات الرقابية، في حين تُستثنى كلفة القوة متعددة الجنسيات والإعمار الرأسمالي (المساكن والبنية التحتية الكبرى) من الميزانية التشغيلية وتُترك لوعود مانحين عبر صندوق مالي منفصل.

كما وردت اعتمادات مبدئية لمكاتب في القاهرة أو العريش أو عمّان، ما يشير إلى إدارة خارجية فعّالة للملف. هذا التوزيع المالي يشي بأن الخطة تضع ضبط الأمن والسيطرة المؤسسية قبل بناء سكن آمن أو إعادة تشغيل اقتصاد محلي.

كما أن إبقاء محركات الإعمار الكبرى رهينة شروط المانحين يمنح فاعلي التمويل قدرة غير مسبوقة على تحديد أولويات إعادة البناء وشكل الاقتصادات المحلية المستقبلية.

الخطة بفكرتها وأصلها وتفاصيلها ليست مقترحاً مؤقتاً لإدارة أزمة إنسانية، بل محاولة لإعادة إنتاج نموذج وصاية تستبدل الإدارة الوطنية بالهيمنة الخارجية. إدارة الملفات من مكاتب خارج غزة، وتمثيل فلسطيني رمزي داخل مجلس يهيمن عليه غربيون ورجال أعمال، كل ذلك يعيد إنتاج منطقٍ يضع القرار السياسي والاقتصادي في يد الخارج ويشيطن قدرة الفلسطينيين على تقرير مصيرهم.

النصوص الواردة حول شرطة محلية منزوعة السلاح وقوة متعددة الجنسيات على الحدود تُفسّر عملياً كآلية لتحييد الشعب الفلسطيني ومقاومته، وفصل مكونات الشعب الفلسطيني وفصائله الوطنية بما في ذلك السلطة الفلسطينية نفسها عن مفاصل القرار، ومن ثم تأمين مسار مفتوح أمام مصالح الاحتلال الإسرائيلي الأمنية والاقتصادية، تحت شعار “الاستقرار”.

أما الجانب الاقتصادي ــ مع تأسيس GIPEDA ــ فيؤسس لتبعية اقتصادية جديدة، حيث تتحول عملية الإعمار إلى منصة استثمارية تخدم أرباح القطاع الخاص الدولي أكثر مما تخدم إعادة بناء مجتمع محلي مستقل.

والأخطر أن آليات “حماية الملكية” ووحدة توثيق ممتلكات النازحين تُشكّل بوابة محتملة لهندسة ديموغرافية مقنّعة: بتسجيل الممتلكات وإجراءات قانونية معقدة يمكن أن يُشرعن خروج أعداد من المواطنين أو يجعل عودتهم شبه منعدم، ومن ثم إضفاء طابع ديموغرافي جديد على قطاع غزة.

في هذا السياق، وصف الكاتب البريطاني ديفيد هيرست خطط بلير بأنها «محكومة بالفشل ولا تعترف بغزة كوطن فلسطيني»، مؤكداً أن رئيس الوزراء الأسبق انضم إلى «الجوارح التي تتغذى على الهولوكوست الفلسطيني». بينما رأت الصحفية البريطانية آش ساركار أن «الشيطان لم يكن متاحاً فحضر بلير»، معتبرة أن حضوره في نقاشات البيت الأبيض لا يهدف إلى السلام بل إلى تلميع سياسة التطهير العرقي دون أي مساءلة.

الخطة تجعل من التفويض الأممي واجهةً شرعية، غير أن الشرعية العملية مشكوك فيها. مجلس الأمن الذي من المفترض أن يمنح التفويض لم يتمكن حتى الآن من إصدار قرارات فعالة لوقف النار أو ضمان حماية المدنيين، فهل يستطيع أن يمنح تفويضاً لإدارة شعب بأكمله؟ ومن زاوية القانون الدولي، تبدو الخطة في تعارض مع مبادئ أساسية: غزة أرض محتلة، وقوة الاحتلال ــ إسرائيل ــ تتحمل مسؤوليات مباشرة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لكل ما يتعلق بحماية السكان وإعادة إعمار ما دمّرته. فرض وصاية دولية بقرار فوقي يختزل مسؤوليات الاحتلال بل ويمنحه مناخاً سياسياً بعيداً عن المساءلة.

بالمثل، ينص القانون الدولي على حق الشعوب المحتلة في تقرير مصيرها، وكذلك يعترف بحق المقاومة بصفته رداً على الاحتلال. إدانة هذا الحق وتحويله إلى “جريمة” عبر آليات جسيمة لنزع السلاح ستشكّل تناقضاً صارخاً مع هذه القواعد.

الخطة لاقت دفعاً من أوساط أميركية، وارتبطت أسماؤها بجاريد كوشنر ودوائر ذات نفوذ. أما الاحتلال الإسرائيلي فيرى الخطة بمنطق براغماتي: قد تفيد في خلق وقائع جديدة تريحه أمنياً، لكنها تبقى حذرة فيما يخص من سيحصل على صلاحيات فعلية وعلى مسألة السماح للسلطة الوطنية الفلسطينية بالتحرك بحرية داخل القطاع. بينما تبدي عواصم أوروبية وعربية تحفظات على مسألة شرعية أي إدارة تهمّش الفلسطينيين.

موفدة صحيفة “هآرتس” إلى نيويورك -ليزا روزوفسكي- قالت إن مصدرا إسرائيليا أكد لها أن البيت الأبيض عرض تفاصيل الخطة على نتنياهو وقيادات إسرائيلية، وأنها “تحظى بدعم كامل من ترامب”.

وأشار المصدر إلى أن المسؤولين الإسرائيليين لم يرفضوها بعد، لكنه لفت إلى وجود “حساسية” حيال منح السلطة الفلسطينية دورا مباشرا، مع إبقاء الباب مفتوحا أمام دور لقوة دولية بقيادة بلير.

وتحدث وزير المالية الصهيوني سموتريتش علنا عن “ثروة عقارية” في غزة، بينما يواصل نتنياهو استقبال اتصالات من بلير من دون الالتزام بخطته، في وقت يرى فيه مراقبون أن الاحتلال يستخدم نقاشات “اليوم التالي” لكسب الوقت وفرض وقائع جديدة على الأرض.

ونقلت الإندبندنت عن عمر عوض الله، نائب وزير الخارجية في السلطة الفلسطينية، إنهم لم يطّلعوا بعد على مسودة خطة بلير، لكنه أضاف: “نحن مستعدون للانخراط بحسن نية، لكن غزة جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، ولن نقبل بأي خطة تُعاملها كاستثمار عقاري أو مالي لشركات أجنبية دون وجود الفلسطينيين”.

في حين أكدت حركة حماس إن بلير شخصية غير مرحب بها، وعدّت أنه شخصية سلبية وربما تستحق أن تكون أمام المحاكم الدولية لدوره في حرب العراق. أما وزير الخارجية التركي حاقان فيدان فقد نفى وجود خطة رسمية من هذا النوع قائلاً: “لا يوجد شيء اسمه خطة توني بلير”، مشدداً على أن النقاش يقتصر على بناء إدارة فلسطينية مستقلة مالياً وإدارياً، وأن غزة ستبقى بيد الفلسطينيين.

وفي تعليقه على الخطة قال الصحفي في قناة الجزيرة جمال ريان: إن بلير لم يكتف بجرائمه في العراق وسوريا ولبنان والسودان والصومال وأفغانستان، بل يقف اليوم وراء مشاريع اقتصادية صممها مع ترامب لمرحلة ما بعد الحرب، بتمويل عربي يخدم أمن إسرائيل.

إذا سارت الأمور وفق التصور الذي تقدمه الوثائق، فسيناريو واحد محتمل هو أن تتحول غزة فعلياً إلى وصاية تدار من الخارج، حيث تُنقل غالبية القرار الأمني والاقتصادي إلى هياكل دولية ورجال أعمال، فيما يُحوّل الجانب المحلي إلى إدارة خدماتية محدودة الصلاحيات.

وهذا السيناريو يعزز جزء مهم من رؤية المحتل الإسرائيلي في التحكم والسيطرة على الحدود والمساحات الاستراتيجية من دون تحمل مسؤوليات وتبعات الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال بشكل متواصل مند سنتين، وهو ما يريده جزء من النخب السياسية في الكيان المحتل.

والأخطر أن تتحوّل الوعود التمويلية إلى آليات ابتزاز سياسي، فلا يحصل أهالي غزة على إعادة إعمار حقيقية إلا مقابل تنازلات ديمغرافية وسياسية صعبة. وعليه كل السيناريوهات تشير إلى أن فرض “وصاية” من هذا النوع سيزيد أزمات القطاع بدل حلها، وسيعمّق الانقسام الفلسطيني ويطيل أمد المعاناة.

بالتالي ربما يؤدي فرض هذه الصيغة إلى مقاومة شعبية داخلية واسعة وإلى عزلة سياسية للجهات الداعمة لها، وربما إلى فشل التطبيق أو ربما تعديل في شكل ومضمون الخطة، وربما ترك الأمور في حالة من الجمود الطويل.

المنطق السياسي والقانوني والأخلاقي يؤكد أن أي طريق نحو حل عادل ومستدام لا يمكن أن يمر عبر وصاية دولية تُفرض على غزة وتضعها تحت إدارة خارجية، بل عبر مسار واضح يبدأ بالالتزام الصارم بالقانون الدولي وبمبادئ حقوق الإنسان.

وهنا يبرز السؤال الجوهري: من هو توني بلير حتى يُنصَّب حاكماً على غزة؟ ومن يملك أصلاً الشرعية التي تخوّله هذا الدور؟ وأين موقع الفلسطيني، صاحب الأرض والقضية، من هذه المعادلة برمّتها؟ أليس تغييب الشعب الفلسطيني عن تقرير مصيره امتداداً مباشراً للرؤية الصهيونية الدينية التي تنكر أصلاً وجود الفلسطينيين وتتعامل معهم كفراغ يمكن تجاوزه؟

وفي هذا السياق، يتساءل المخرج البريطاني مارك أدرلي: كيف يُسمح لمن أشعل الفوضى في الشرق الأوسط أن يقرر مستقبل فلسطين؟، معتبراً أن حضوره في البيت الأبيض لا يعني سوى “تبييض التطهير العرقي الذي ترتكبه إسرائيل”.

وعليه، فإن بدائل هذه الخطة يجب أن تكون واضحة، تبدأ بإعطاء الأولوية المطلقة لوقف العدوان فوراً ورفع الحصار عن القطاع من دون شروط، إذ إن أي حديث عن إعمار أو إدارة يفقد معناه إذا استمر الحصار قائماً. كما يتعين على إسرائيل أن تنسحب انسحاباً كاملاً من غزة والضفة والقدس، حتى تستعيد العملية السياسية أرضية قانونية صحيحة.

وفي المقابل، يجب تمكين إدارة فلسطينية حقيقية تنبثق عن توافق داخلي صادق، تشارك فيها القوى المحلية والمجتمع المدني، بعيداً عن أي وصاية خارجية تُقصي الإرادة الشعبية.

أما الإعمار، فلا يمكن أن يتم وفق شروط تحوّل القطاع إلى مشروع استثماري يخدم مصالح جهات أجنبية؛ بل ينبغي أن تقوده مؤسسات فلسطينية بدعم دولي غير مشروط.

وإلى جانب ذلك، تظل المساءلة الدولية عن جرائم الحرب والجرائم المحتملة ضد الإنسانية أفقاً لا يمكن طمسه، سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية أو من خلال آليات قضائية دولية أخرى، لأن المحاسبة تظل شرطاً أساسياً لتحقيق العدالة والاستقرار.

اقرأ المزيد عبر المركز الفلسطيني للإعلام

عن الشبكة نت

arالعربية
جميع الحقوق محفوطة لموقع الشبكة الجزائرية نت 2008 .. 2025