الله يبعث في كل أمة من يحييها بعد موات، وهكذا كان الإمام عبد الحميد بن باديس نفحة من نفحات الله ورحمة من رحماته على الجزائر. لقد جاء في زمن تكالبت فيه الدنيا على هذه الأمة، وسعى الاستعمار الفرنسي للقضاء على مقوماتها وهويتها، خاصة التمسك بالإسلام السمح، الذي كان جوهر وجودها وقوتها. وكما قال ابن باديس نفسه، مُعبّرًا عن صلابته في مواجهة الاستعمار ومحاولات طمس الهوية الجزائرية:
“إنّ الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا، ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها، وفي عنصرها، وفي دينها، ولا تريد أن تندمج.”
لقد كاد الاستعمار ينجح في مسعاه، لولا أن هيّأ الله لهذا الوطن رجالًا مخلصين، وعلى رأسهم ابن باديس ورفقاؤه في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذين واجهوا المشروع الاستعماري بفكر ثاقب، وإرادة صلبة، وعمل دؤوب، أعادوا به للأمة روحها وهويتها.
نفاذ البصيرة وسلامة السريرة
أول أسباب نجاح هذه الشخصية العبقرية هو نظرته العملية إلى المجتمع الجزائري وخصائصه وحاجياته، فقد كان دقيقًا في فهم حاجياته الإيمانية والعلمية، وسعى لارتقائه من خلال بعث نهضة فكرية شاملة. ولا شك أن بصيرته النافذة نابعة من إخلاصه في العمل، فقد كان يسعى لتحرير الأمة مما عانته من الأفكار التي زرعها الاستعمار طوال قرن كامل. لقد كانت جهوده كنفخ الروح في جسد أمة عظيمة، فأحيا تاريخها بجهاد مجيد، وكان لمدرسته أثر عميق في صناعة جيل ثورة أول نوفمبر. وكما قال: “والله لو قال لي قائل: مت وأنت تحيي هذه الأمة وتميتها! لقلت له: مت وأنا أحييها، فهذا هو شعاري في حياتي ومماتي.”
بساطة الطرح وتيسير المعاني الربانية
قلّما وُفِّق داعية في تقريب المعاني الإسلامية العميقة من عامة الناس، ولكن ابن باديس استطاع ذلك بأسلوبه الفريد، حيث لم يكن يخاطب النخبة فقط، بل كان يخاطب الجميع، في المساجد، والأسواق، ومن خلال الجرائد التي كان يشرف عليها. لقد جعل الإسلام أسلوب حياة، لا مجرد دروس نظرية، حتى أحيا بذلك أخلاق الصحابة والتابعين في المجتمع الجزائري. وكما قال: “لو لم يكن العلمُ إلّا وسيلةً لجمع المال والتوصل إلى الجاه، لكان قبيحًا وشرًّا، ولكنّ العلم فوق ذلك، هو الذي يُعرّف الإنسان بنفسه وبخالقه، ويهديه إلى سعادة الدنيا والآخرة.”
تربية الأمة والجيل الناشئ
كان تركيز الإمام ابن باديس على التعليم القرآني أساسًا في مشروعه الإصلاحي، فأنشأ المدارس القرآنية في القرى والمداشر والمدن، ونشر التعليم الحر رغم بساطة الإمكانيات، وكان يؤمن أن بناء الإنسان هو السبيل الوحيد لبناء الأمة. لذلك، جعل من هذه المدارس مصانع للأبطال والمجاهدين، حيث تخرج منها العديد من قادة الثورة الجزائرية.
تأجيل المواجهة إلى حين
لم يكن ابن باديس متسرعًا في الصدام مع الاستعمار، بل كان يدرك أن المعركة تحتاج إلى إعداد فكري وتربوي قبل المواجهة المباشرة. ولذلك، ركّز على تكوين جيل واعٍ ومتعلم، قادر على حمل مشعل المقاومة في الوقت المناسب. ومع ذلك، لم يكن ساكتًا عن الحق، فقد وقف في وجه كل محاولات طمس هوية الأمة، وكان صوته مدويًا في الصحافة والمساجد، صادحًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم.
فهم سبب الداء وفعالية الدواء
لأنه كان يعيش وسط الجزائريين، كان يعلم جيدًا ما تعانيه هذه الأمة من مشاكل وأمراض فكرية واجتماعية، فعمل على علاجها باتباع أسلوب بسيط وعملي. وكان سر نجاحه ليس فقط في تشخيص المشكلة، ولكن في فعالية الحلول التي قدمها، والتي أعادت للأمة ثقتها بنفسها وأحيت فيها روح النهضة.
الاعتماد على علماء الجزائر والانفتاح عليهم
لم يكن ابن باديس يعمل بمفرده، بل سعى إلى توحيد علماء الجزائر، والانفتاح عليهم، وتوجيههم نحو خدمة الأمة. وهكذا، انتشرت دعوته في كل ربوع الجزائر، وتمكنت من الوصول إلى كافة الطبقات الاجتماعية، بفضل أسلوبه السلس والمباشر.
لسان صادح بالحق وقلم حي
كان ابن باديس يدرك أهمية الإعلام في نشر الوعي، لذلك أسس عدة جرائد، مثل:
• المنتقد، •الشهاب، •البصائر
وكان يردد دائمًا: “لقد عاهدت الله أن لا أسكت عن الظلم، وأن أدافع عن الحق ما استطعت.”
عدم استعجال الثمرة
كان يدرك أن بناء الأمم لا يتم بين ليلة وضحاها، لذلك لم يكن مستعجلًا للنتائج، بل كان يؤمن بأن التغيير يحدث تدريجيًا، من خلال التربية والتعليم ونشر الوعي. وكما قال: “إننا نُؤمن بأن الجزائر ليست ملكًا لنا وحدنا، وإنما هي ملك لأبنائنا وأحفادنا، ولن نستطيع أن نخون الأمانة التي وُضِعت في أعناقنا.”
التضحية بحظوظ النفس والشهرة والجاه
كان يمكن لابن باديس أن يكون من أثرياء الجزائر لو تعاون مع فرنسا، أو أن يكون عالمًا بارزًا في الحجاز أو تونس، ولكنه اختار التضحية بكل شيء من أجل وطنه. وكما قال عنه الشيخ البشير الإبراهيمي: “كان ابن باديس أمة وحده، أحيى أمة بعد أن كادت تموت.”
تحيا الجزائر والعرب
لقد كان ابن باديس يؤمن بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية والعربية، ولذلك لم تكن نضالاته لأجل الجزائر وحدها، بل لأجل الأمة كلها. وكان يقول: “إنما هلاككم في اختلافكم، وإن حياتكم في وحدتكم.”
خاتمة: ابن باديس، رجل لا يتكرر
إن ابن باديس ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو مدرسة متكاملة في الفكر والإصلاح، ولذلك يحق للجزائر أن تفخر به، وتعتبره أبًا حقيقيًا لثورتها المجيدة، وقائدًا من قادة النهضة الإسلامية الحديثة. وكما قال عنه المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجيرون: “كان عبد الحميد بن باديس أخطر عدو لسياسة فرنسا الاستعمارية في الجزائر، لأنه واجهها بسلاح لا يمكن هزيمته: العلم والإصلاح الديني.”
رحم الله الإمام عبد الحميد بن باديس، وجزاه عن الجزائر والأمة خير الجزاء.
د. بن زموري محمد