–
– همُّ الدَّاعية أن يفيد السامعين وليس أن يُظهر براعته في الخُطَب وتنوع معانيها دون نظر
– على الدعاة أن يقدموا بين يدي ما يقولونه ما يدعو إلى جلب انتباه السامعين ويشدهم إلى كلامهم
– النبي أوصى في خطبة الوداع بالمرأة والرقيق على أنهما نموذجان من الضعفاء
– العلاقة بين الحاكم والمحكوم تعتمد على السمع والطاعة ما دام الرئيس يحكم بكتاب الله وسُنة رسوله
– النبي حدد مصدر التلقي والطريقة المثلى لحل مشكلات المسلمين في الرجوع إلى مصدرين: الكتاب والسُّنة
تزخر السيرة النبوية بكثير من الدروس والعبر التي يستفيد منها كل مسلم وكل إنسان، فيستفيد منها الإنسان العادي والفقيه والمؤرخ والمعلم والداعية، وفي هذا المقال، سنتناول بعض الدروس التعليمية والتربوية والفقهية المستفادة من حجة الوداع باختصار.
أولاً: الدروس التعليمية من حجَّة الوداع:
أ- التعليم بمباشرة ما يراد تعليمه:
علَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام مناسك الحج بصورة عملية، بأن قام بها، وباشرها فعلاً، ولم يكتفِ بأن يعلّمها لهم قولاً، ولذلك قال لهم: «خذوا عني مناسككم»، وعلى هذا فيُستحسن من الدُّعاة؛ وهم يعلّمون الناس معاني الإسلام أن يعلّموهم هذه المعاني، والمطلوبات الشَّرعية، أو بعضَها في الأقل بصورة عمليَّة كالوضوء، والصَّلاة، وتعليم قراءة القرآن بصورة سليمة.
ب- تكرار الخُطَب:
لاحظنا أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كرر خطبه، فقد خطب في عرفة، وفي منى مرتين، كما كرَّر معاني بعض هذه الخطب، فعلى الدُّعاة أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكرّروا خطبهم، ويكرّروا بعض معانيها التي يرون حاجة لتكرارها؛ حتى يستوعبها السَّامعون، ويحفظوها؛ لأنَّ القصد من خُطب الخطيب إفادة السَّامعين بما يقول، فإذا كانت الفائدة لا تحصل، أو لا تتمُّ إلا بتكرار الخُطب من حيث عددها، أو بتكرارها من حيث تكرار معانيها، فليكرّرها الدَّاعية، ولا يكون حرصه على أن يأتي بجديد في خطبه، ما دام يرى الحاجة في ترسيخ معانٍ معيَّنة في أذهان السَّامعين.
إنَّ الدَّاعية همُّه أن يفيد السَّامعين، وليس همُّه أن يُظهر براعته في الخُطَب، وفي تنوُّع معانيها دون نظر، ولا اعتبار إلى ما يحتاج إليه السَّامعون، ودون اعتبار لفهمهم هذه المعاني، واستيعابهم لها.
جـ- فَليُبلّغ الشَّاهدُ الغائبَ:
وفي هذا توجيهٌ نبويٌّ كريمٌ لكي تعمَّ الفائدة أكبر عددٍ ممكنٍ من النَّاس، فهذا من باب التعاون على الخير؛ ولأنَّ الغائب قد يكون أوعى للعلم، وأكثر فهماً له من الحاضر الذي سمع، وعلى الدُّعاة والعلماء عندما يُلْقُون درساً أو محاضرةً لإخوانهم أو لعامَّة النَّاس أن يقولوا للحاضرين: «فليبلّغ الحاضرُ منكم الغائبَ بما سمعه».
د- جلب انتباه الحاضر لما يقوله الخطيب:
يستفاد من سؤال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم الحاضرين عن اسم اليوم الذي هم فيه، وكذا عن الشَّهر، والبلد -وهم يعرفونها- ما يجلب انتباههم إلى ما قد عسى أن يريده بطرح هذه الأسئلة، فيصغون إليه إصغاءً تامَّاً، قال القرطبيُّ: «سؤال النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة: أي: عن اليوم، والشَّهر، والبلد، وسكوته بعد كلّ سؤال منها؛ كان لاستحضار فهومهم، وليُقبلوا عليه بكلّيَّتهم وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه..»، فعلى العلماء والدُّعاة أن يقدّموا بين يدي ما يقولونه ما يدعو إلى جلب انتباه السَّامعين، ويشدُّهم إلى كلامهم.
ثانياً: الأحكام الإيمانية المستقاة من حجَّة الوداع:
جاءت حجَّة الوداع حافلةً بالأحكام الشَّرعية، خاصَّةً ما يتعلَّق بالحجِّ، وبالوصايا، والأحكام التي وردت في خطبة عرفات، لذلك اهتمَّ العلماء بحجَّة الوداع اهتماماً كبيراً، واستنبطوا منها الكثير من أحكام المناسك، وغيرها ممَّا تحفِل به كتبُ الفقه، وكتبُ شروح الحديث، وخصَّص بعضُهم مؤلفات مستقلَّة في حجَّة الوداع، ونشير إلى بعض هذه الأحكام باختصار شديد، فمن هذه الأحكام:
أ- إفطار الحاجّ يوم عرفة:
قالت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ النَّاس شكُّوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلْتُ إليه بحلاب، وهو واقفٌ في الموقف، فشرب منه، والنَّاس ينظرون إليه.
ب- كيف يفعل بمن تُوفي مُحْرِماً؟
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: بينما رجلٌ واقفٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة؛ إذْ وقع عن راحلته، فَوَقَصَتْهُ، أو فأَوْقَصَتْهُ، فذُكر ذلك للنَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اغسلوه بماء وسدْر، وكفّنوه في ثوبين، ولا تحنّطوه، ولا تخمّروا رأسه؛ فإنه يُبْعَثُ يوم القيامة ملبّياً».
جـ- هل يجوز الحجُّ عن الغير؟
قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الفضل بنُ العبَّاس رديفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأةٌ من خثعم، فجعل الفضلُ ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشّقّ الآخر، فقالت: يا رسول الله، إنَّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يَثْبُتُ على الرَّاحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: «نعم»، وذلك في حَجَّة الوداع.
د- منهج التَّيسير «لا حرج.. لا حرج!»:
قال عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فطفق ناس يسألونه، فيقول القائل: يا رسول الله، إنِّي لم أكن أشعر أنَّ الرمي قبل النَّحر، فنحرت قبل الرمي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارم، ولا حرج!» قال: وطفق آخر يقول: إنّي لم أشعر أنَّ النَّحر قبل الحلق، فحلقت قبل أن أنحر، فيقول: «انحر، ولا حرج!»، قال: فما سمعته يُسأل يومئذٍ عن أمرٍ ممَّا ينسى المرء ويجهل، من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعل، ولا حرج!».
هذه بعض الأحكام المختصرة، ومن أراد المزيد فليراجع ما كتبه الألبانيُّ عن حجَّة الوداع، فقد لخص الحَجَّةَ في اثنتين وسبعين مسألة، وكتاب «الوصيَّة النَّبويَّة للأمَّة الإسلاميَّة» للدكتور فاروق حمادة، فقد جمع من المصادر الأدبيَّة والحديثيَّة وكتب أهل السّير ثمانية وثلاثين بنداً، ثمَّ قام بتحليلها وتخريجها وتوثيق نصوصها بميزان الجرح والتَّعديل؛ الذي اعتمده أئمَّة المسلمين منذ الصَّدر الأول؛ لأنَّ الأمر دينٌ وشرعٌ كما قال، وقد أجاد وأفاد.
ثالثاً: الدروس التربوية من حجة الوداع:
أ- الأخوَّة في الله:
إن الأخوة في الله هي العُروة الوُثقى الَّتي تربط بين جميع المسلمين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أيُّها النَّاس، اسمعوا قولي، واعقلوه، تَعَلمُنَّ: أنَّ كلَّ مسلمٍ أخٌ للمسلم، وأنَّ المسلمين إخوةٌ؛ فلا يحلُّ لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تَظْلِمُنَّ أنفسكم»، وقال: «إنَّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، حتَّى تلقَوا ربَّكم فيسألَكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلاَّلاً يضرب بعضُكم رقاب بعض».
ب- الوقوف بجانب الضَّعيف:
شرع الله الوقوف بجانب الضعيف حتَّى لا يكون هذا الضَّعف ثغرةً في البناء الاجتماعي، فأوصى صلى الله عليه وسلم في خطبته بالمرأة والرَّقيق على أنَّهما نموذجان من الضُّعفاء، فقد شدَّد صلى الله عليه وسلم في وصيته بالإحسان إلى الضُّعفاء، وأوصى خيراً بالنساء، وأكَّد في كلمة مختصرة جامعة القضاء على الظُّلم البائد للمرأة في الجاهليَّة، وتثبيت ضمانات حقوقها، وكرامتها الإنسانيَّة، الَّتي تضمَّنتها أحكام الشَّريعة الإسلاميَّة.
جـ- تنظيم العلاقة بين الراعي والرعية:
شرع الله التَّعاون مع الدولة الإسلامية على تطبيق أحكام الإسلام، والالتزام بشرع الله، ولو كان الحاكم عبداً حبشيّاً؛ فإنَّ في ذلك الصَّلاح، والفلاح، والنَّجاة في الدنيا والآخرة، فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم العلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنَّها تعتمد على السَّمع والطَّاعة ما دام الرئيس يحكم بكتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا مال عنهما؛ فلا سمع، ولا طاعة، فالحاكم أمين من قبل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى.
د- المساواة بين البشر:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، النَّاس من آدم، وآدم من تراب»، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حيث حدَّد أن أساس التَّفاضل لا عبرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية.. إلخ، وإنَّما أساس التَّفاضل قيمة خلقيَّة راقية ترفع مكانة الإنسان إلى مقامات رفيعة جداً.
هـ- تحديد مصدر التلقّي:
حدَّد صلى الله عليه وسلم مصدر التلقّي والطريقة المثلى لحل مشكلات المسلمين، التي قد تعترض طريقهم، في الرُّجوع إلى مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم بعد الاعتصام بهما الأمان من كلِّ شقاء وضلال، وهما: كتاب الله، وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهُّد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده؛ ليبيّن للناس أن صلاحية التمسُّك بهذين الدليلين ليست وقفاً على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأي تطور حضاري، أو عُرْف زمني أي سلطان، أو تغلُّب عليهما.
لقد وصف صلى الله عليه وسلم الدَّاء والدَّواء، ووضع العلاج لكل المشكلات بالالتزام التام بما جـاء من أحكام في كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسَّكتُم به؛ لن تضلُّوا بعدي أبداً كتاب الله، وسُنتي».
هذا هو العلاج الدَّائم، وقد كرَّر صلى الله عليه وسلم نداءه للبشرية عامَّة عبر الأزمنة، والأمكنة بوجوب الاهتداء بالكتاب والسُّنة في حل جميع المشكلات التي تواجه البشرية؛ فإن الاعتصام بهما يجنّب النَّاس الضَّلال، ويهديهم إلى التي هي أقوم في الحاضر والمستقبل.
لقد اجتازت تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه حدود الجزيرة، واخترقت حواجز الزمن، وأسوار القرون، وظل يتردد صداها حتى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلم يكن يخاطب سامعيه، فيقول لهم: «أيُّها المؤمنون، أيُّها المسلمون، أيُّها الحجَّاج)؛ بل كان يقول لهم: «أيُّها النَّاس»، وقد كرَّر نداءه إلى الناس كافَّة مرَّات متعدِّدة دون أن يخصّصه بجنس، أو بزمان، أو مكان، أو لون، فقد بعثه الله للنَّاس كافَّة، وأرسله رحمة للعالمين.
المراجع
1- أبي شبهة، السيرة النبوية، 2/ 575.
2- صحيح البخاري، 4407.
3- صحيح مسلم، 3017.
4- علي الصلابي، السيرة النبوية، إستانبول، دار الروضة.
5- الندوي، السيرة النبوية، 386.