كلام الناس

جلست تتناجى مع أختها فتناولت معها أطراف الحديث من هنا وهناك، في جلسة ثنائية ضمتهما، لكنها لم تخلُ من القيل والقال التي يكرهها الله تعالى؛ أرأيت عائلة فلان! لقد زوجوا ابنتهم من رجل عامل بسيط، تخيلي يا أختي حتى السيارة لا يملكها! وسيسكن معها في بيت بالإيجار! كيف يتزوج وهو بهذه الحال؟ لا أدري كيف وافقوا أن يزوجوه ابنتهم؟! ماذا يقول الناس عن أبيها، ألا يجد ما يطعمها به، أم أنه يريد أن يتخلص منها؟! ألم يجد لها عريساً غيره يملك بعض المال أو العقار؟! مسكينة تلك الفتاة! 

أومأت أختها برأسها إظهاراً لموافقتها الرأي، وجلست كل منهما تفرغ ما عندها من أخبار وأحداث في محيط الأهل والأسرة والصديقات والجيران وزميلات العمل.

للأسف، فإن هذا مشهد من واقع الحياة قد يحصل من بعض الناس تجاه الآخرين، فهل مِثل هذا الكلام يؤثر على حياة بعضنا سلباً وإيجاباً، أم أنه مجرد كلام لا أثر له على تصرفاتنا؟

كلام الناس إذا صلح فهو كالجليس الصالح لمن يسمعه يعين على فعل الخير أو دفع السوء

ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أثر الكلمة التي تتسبب في إشباع بطن جائع إذا كانت تحث على الصدقة، وأثرها في إقلاع مذنب عن ذنب وتوبته منه حين تأمره بالمعروف، وأثرها حين تطيب فتحوّل الهجر والقطيعة إلى تآلف ووصال، وذلك في إصلاح ذات البين والعودة بالحب والصفاء والود بين المتخاصمين، فقال سبحانه: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء: 114)، قال ابن كثير: “لا خير في كثير من نجواهم” يعني: كلام الناس.

إن كلام الناس مؤثر لا شك على بعضهم بعضاً، ولا حرج في ذلك، إنما الحرج والخسران حين يكون بتأثيره القوي صادّاً عن طريق الله تعالى، وقد حصل ذلك مع أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى المسيب بن حزن: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: “أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله”، فقال أبو جهل، وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب! فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبدالمطلب. (رواه البخاري).

إن كلام الناس إذا صلح فهو كالجليس الصالح لمن يسمعه، يعين على فعل الخير أو دفع السوء والشر، ويساعد على ترك المنكر والإقلاع عن المعصية؛ فيكون بذلك نعم الكلام لقائله وسامعه، أما إن كان الكلام مخالفاً لما أمر الله به فإنه يصير كجليس السوء ونافخ الكير؛ لذا فقد دعانا النبي صلى الله عليه وسلم لحسن الكلام فقال: “كل كلام ابن آدم عليه لا له؛ إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو ذكراً لله” (حسنه الألباني).

قد يرغب شاب في الزواج من فتاة ذات دين فيقف له الأهل رافضين إياها خوفاً من كلام الناس

فعلى المسلم أن يكون بكلامه مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وألا يطلق لسانه في أحوال الناس بالنقد والتحليل والإيذاء، كما أن عليه ألا يلتفت لأي كلام يحول بينه وبين طاعة ربه؛ حتى لا يؤدي به إلى الوقوع فيما لا تُحمَد عقباه في الدنيا والآخرة.

كلام الله ورسوله أحق بالاتباع:

بعض الناس يتخوف أن تطاله الألسنة بالكلام عنه؛ فيعمل حساباً لكلام الناس قبل أي شيء، وقد يحجم عن العمل وإن كان خيراً وحقاً، أو يعمله إرضاء للناس وإن كان باطلاً ومحرماً، يفعل ذلك اجتناباً للوم والعتاب من بعض الناس له، وهروباً من نظرات الاستنكار منهم.

– فقد تحجم المسلمة البالغة عن ارتداء الحجاب خوفاً من كلام الناس عنها من أنه يخفي جمالها ويعطل زواجها ويحدّ من حريتها، وهم في ذلك مخطئون؛ فالفتاة المؤمنة لا تُصغِي لهم سمعاً لأن الله تعالى يقول: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور: 31).

– وقد يرغب شاب في الزواج من فتاة بعينها ذات دين وخلق فيقف له بعض الأهل رافضين هذه الزيجة خوفاً من كلام الناس لأن أباها رجل لا جاه له ولا مكانة بين أهل الغنى والثراء، فهل ينظر أحد لكلام الناس هذا مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: “تنكح المرأة لأربع؛ لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك” (رواه البخاري)، أو يُرفَض الخاطب نفسه وهو صاحب الدين والخلق لكنه في بداية حياته العملية، والفتاة تقبل به لكن وليّها يرده ولا يزوّجه منها تحسباً لكلام الناس عليه أو على وظيفته المتواضعة أو أسرته المتعففة! ألم يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد”، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟  قال: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه” ثلاث مرات (صحيح الترمذي).

– وقد تستعد العروس ليوم عرسها المنتظر، فتعد الأيام والساعات ترقباً لمجيئه، حتى ترتدي فستان الزفاف الأبيض، وتلتقي بالصديقات والأحباب في هذه المناسبة السعيدة؛ فتعمل حساباً لكلام الناس في كل شيء يخصها فيها، وترغب في مديحهم لذوقها في يومها السعيد، فاليوم هو يوم العمر، والليلة هي ليلتها؛ فتقع هي وأهلها فيما لا يرضي الله؛ فالعرس مختلط، الرجال والنساء بزينة العرس في مكان واحد، والعروس تظهر بكامل زينتها وإن غطت شعرها، وتُزَف من طرف الرجال هي وزوجها، وقد ترقص مع عريسها للتصوير، على مرأى من جميع الحاضرين، وقد يوافق الزوج زوجته على ذلك ويشاركها فيه ويعينها عليه، ولسان حالهم يقول: ماذا يتكلم الناس عنا إن لم نفعل هذا؟! فهل حقيقة كل ذلك من أجل كلام الناس أم أن الحلال اختلط بغيره فصار خافياً لا يُعلَم؟! أليس أمر الله تعالى واضحاً لنا جميعاً: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ) (النور: 31).

– وهذا العروس يجهز بيته بكل أنواع الأثاث؛ الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ولو أدى ذلك إلى الاستدانة والغرق في الديون! حتى لا يقول الناس عنه شيئاً يقلل منه!

لماذا يحرص البعض على إرضاء الناس حتى إن كان إرضاؤهم يؤدي إلى الحرج والمشقة أو يغضب الله؟!

– وأمٌّ تجهز ابنتها عند زواجها بكل ما تحتاجه وما لا تحتاجه من الجهاز خوفاً من كلام الناس؛ فتقصم ظهر أبيها بكثرة النفقات وقد يدخل السجن ليدفع فاتورة تلك الديون من حريته وصحته!

– وموظف يحصل على المال من حرام بالرشوة والزور، ولا يبالي من أي طريق يحصل عليه، حتى يغتني فيكبر في عين الناس!

فلماذا يعلق البعض عمله فيربطه بكلام الناس عنه وآرائهم فيه فيقوم بالعمل أو يتركه تبعاً لذلك؟! ولماذا يحرص البعض على إرضاء الناس وإن كان إرضاؤهم يؤدي إلى الحرج والمشقة، أو يغضب الله تعالى! ألم يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وقال: “مَن أرْضَى الناس بسخَط الله وكَلَه الله إلى الناس، ومَن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مُؤْنَةَ الناس” (صحيح الجامع).

ألا وإن المسلم لا يتكلم عن الناس إلا بالخير، ولا يخوض إلا فيما يعنيه، ولا يسمع لكل ما يقال، ولا يطيع الناس في كلامهم إلا فيما يرضي الله عز وجل، وليعلم أن رضا الناس عنه في كل حال هو أمر محال، وقد قال الإمام الشافعي واصفاً لنا ذلك في أبيات بديعة فقال:

ضحكتُ فقالوا ألا تحتشم

بكيتُ فقالوا ألا تبتسم

بسمتُ فقالوا يرائي بها

عبستُ فقالوا بَدا ما كتم

صَمَتُّ فقالوا كليل اللسان

نطقتُ فقالوا كثير الكلم

حلِمتُ فقالوا صنيع الجبان

ولو كان مقتدراً لانتقم

فأيقنتُ أني مهما أردت

رضا الناس لا بد مِن أن أُذَم

إيمان مغازي الشرقاوي 

About Author

%d مدونون معجبون بهذه: