الحمدُ للهِ الذي أعظَمَ علينا الْمِنَّةَ بالإسلامِ والسُّنةِ، اللهُمَّ وَفِّقنا بفضلكَ للاتِّبَاعِ، واعْصِمْنا برَحْمَتكَ من الابتداعِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريك لَهُ، الذي عَجَزَ الحامدونَ على القِيامِ بأَدَاءِ شُكْرِ نعْمَةٍ من نِعَمِهِ، وكَلَّتْ أَلْسِنَةُ الواصفين عَن بُلُوغ كُنْهِ عَظَمَتِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُهُ ورسُولُهُ، صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ سيِّدِ المرسلين، وإمامِ المُتقينَ، وخاتمِ النبيين في كُلِّ ساعَةٍ ولَحْظَةٍ على دَوَامِ الأَبَدِ ما لا يَدْخلُ تَحْتَ الْعَدَدِ، ولا يَنْقَطِعُ عَنهُ الْمَدَدُ، وعلى إخوانهِ من النبيينَ والمُرسلينَ والملائكةِ المُقرَّبينَ، وعلى أزواجهِ أُمَّهاتِ المُؤمنينَ وذُرِّيتهِ وأصحابهِ وعِتْرَتهِ، وعلى مُتَّبعي سُنَّتهِ، وأهلِ إِجَابَةِ دَعْوَتهِ بِمَنِّهِ وفضْلِهِ وسَعَةِ رَحْمَتِهِ.
أما بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلَمُوا أنَّ أولَ ما تُحاسَبُون عليهِ من حُقوقِ اللهِ يومَ القيامةِ: صلاتُكَمْ، قالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (أَوَّلُ ما يُحَاسَبُ بهِ العَبْدُ يومَ القيامَةِ صَلاتُهُ، فإنْ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وإنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا، قالَ: انظُرُوا تَجِدُونَ لعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ، فأَكْمِلُوا ما ضَيَّعَ مِنْ فَرِيضَتِهِ، ثُمَّ الزَّكَاةُ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الأعمَالُ على حَسَبِ ذلِكَ) رواه الإمام أحمد وجوَّد إسناده ابن رجب.
ألا وإنَّ أفضلَ صلاةِ التطوُّعِ: قيامُ الليلِ،قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (أفْضَلُ الصلاةِ بعْدَ الصلاةِ الْمَكْتُوبَةِ: الصلاةُ في جَوْفِ الليلِ) رواه مسلم، وهيَ سُنةٌ مؤكَّدةٌ ثابتةٌ بالكتابِ والسُّنةِ والإجماع، وقد أثنى اللهُ عَزَّ وجَلَّ على الْمُتهجِّدينَ في الليلِ فَأَحْسَنَ عليهِمُ الثَّناءَ، ووَعَدَهُم أحْسَنَ ما يكونُ من الْمَوْعِدِ الجَميلِ، ورَغَّبَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على قِيامِ الليلِ وحَثَّ أُمَّتَهُ عليهِ، وهكَذا الصَّحابةُ ومَن بعدَهُم رَغَّبُوا فيهِ وحَثُّوا على قِيَامِهِ، ونَبُلَ عندَ جَمِيعِ المسلمينَ مَنْ كانَ لَهُ حَظٌّ في قيامِ الليلِ، وسَنُبيِّنُ في هذهِ الجُمُعَةِ إن شاءَ اللهُ ما فيهِ مِنَ الفَضْلِ العظيمِ والحَظِّ الجَزِيلِ، ليكونَ الرَّاغبُ في قيامِ الليلِ على بصيرةٍ، يُتَاجِرُ مَوْلاهُ الكريمَ بعلْمٍ ويُحْسِنُ الخِدْمَةَ للْمَوْلَى رَجَاءَ الْقُرْبَةِ مِنْهُ:
فَمِنَ الفَضَائلِ: أنَّ قيامَ الليلِ من صفاتِ عبادِ الرَّحمنِ: قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان: 64].
أهلُ القيامِ اللهُ تباركَ وتعالى أقربُ إليهم من غيرهِم: قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (أَقْرَبُ ما يكونُ الرَّبُّ منَ العبدِ في جَوْفِ الليلِ الآخِرِ، فإنْ استَطَعْتَ أنْ تكونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ في تِلْكَ الساعةِ فَكُنْ) رواه الترمذيُّ وصحَّحه الألباني.
أَمَرَ اللهُ نبيَّهُ محمداً صلَّى الله عليهِ وسلَّم بمراجعةِ حفصةَ رضي الله عنها لأنها من أهلِ قيامِ الليلِ: قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (قالَ لي جبريلُ عليهِ السلامُ: راجِعْ حَفْصَةَ، فإنها صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وإنها زوْجَتُكَ في الجنَّةِ) رواه الحاكم وحسنه الألباني.
أهلُ القيامِ هُم أبعدُ الناسِ عن النفاقِ: قال قتادةُ: (كانَ يُقَالُ: ما سَهِرَ الليلَ مُنَافِقٌ) رواه ابنُ المباركِ في الزهدِ.
الخطبة الثانية
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسُولُهُ.
أمَّا بعدُ: (فإنَّ خَيْرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ، وخيرُ الْهُدَى هُدَى مُحمَّدٍ، وشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلُّ بدعَةٍ ضَلالَةٌ)، و(لا إيمانَ لِمَن لا أَمانةَ لَهُ، ولا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ).
أيها المسلمون: بوَّب أبو نُعيمٍ في كتابه: (الطب النبوي): (القيامُ بالليلِ مَصَحَّةٌ)، ثمَّ ساق بسنده إلى بلالٍ رضي الله عنه قال: قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ عزَّ وجلَّ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ)، وضعَّف الألباني الجزء الأخير (ومطردة للداء عن الجسد).
لقد أثبتَ الطبُّ الحديث أنَّ قيامَ الليلِ يُقوِّي جهاز المناعة، فالصلاة في جوف الليل تُؤدِّي إلى سمو الرُّوح وجلب الهدوء والسكينة والطمأنينة للقلوب، فمما لا شك فيه أن يكون لهذه العبادة الخفية دور أكبر في تقوية جهاز المناعة، إذا قام المسلم للتهجد فإنَّ اللهَ يَحميه من ارتفاع ضغط الدم والجلطات القلبية والموت المفاجئ، وإذا كان المريض يعاني من ضغط الدم أو نقص تروية القلب فإنه إذا نام ثم استيقظ للتهجد فإنه يقل لديه فرصة التعرض لمضاعفات زيادة الضغط ونقص تروية القلب والسكتة القلبية.. أي إن قيام الليل وقاية وشفاء لأمراض القلب والضغط ومضاعفاته، إذا استيقظ المسلم في الثلث الأخير من الليل فإنه يكون أقل عرضة لأمراض الجهاز التنفسي، لأنه يَحمي الجهاز التنفسي من أمراض الحساسية والتهابات الجيوب الأنفية, كما أن الصلاة وكثرة السجود تحفظ الرئة من الأمراض، حيث إن في حالة السجود يزداد تدفق الدم إلى المنطقة الأولى الجدبة من الرئة، وبالتالي تحصل على أوكسجين أعلى في هذا الوقت، وبالتالي تكون أقل عرضة للدرن الرئوي ومرض السرطان، لو استيقظ مريض التنفس في الثلث الأخير من الليل لكان بعيداً عن المسببات والمضاعفات الكثيرة والتي منها: تضخم الجهة اليمنى من القلب، وفشل القلب، وارتفاع ضغط الدم، واضطرابات القلب، وفشل التنفس، والسكتة الدماغية، والذبحة الصدرية، والموت المفاجئ، فضلاً عن الحرمان من النوم والصداع المستمر، وسرعة الغضب وتقلب المزاج، وإن نوم المسلم على طهارة يجعله هادئ البال, منشرح الصدر مما يُؤدي إلى انخفاض مستوى الكورتيزون فتتحسن دورات النوم ويصحو هادئاً نشيطاً، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (يَعْقِدُ الشيطانُ على قَافِيَةِ رَأْسِ أحدِكُم إذا هوَ نامَ ثلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مكانَها: عليكَ ليلٌ طويلٌ فارْقُدْ، فإنِ استيقَظَ فذكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ انحلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صلَّى انحلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّها، فأَصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النفْسِ، وإلاَّ أَصْبَحَ خَبيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ) رواه البخاري ومسلم، وزادَ ابنُ خزيمةَ: (فَحُلُّوا عُقَدَ الشيطانِ، ولَوْ برَكْعَتَينِ).