الرئيسية 08 الشبكة الاسلامية 08 تاريخ حضارة 08 أضواء على وقائع وأهمية مظاهرات11 ديسمبر1960م

أضواء على وقائع وأهمية مظاهرات11 ديسمبر1960م

ذكريات الثورة الجزائرية العظيمة كثيرة ومتنوعة، بحيث لا يكاد يخلو شهر من الشهور من ذكريات خالدة قدم فيها الشعب الجزائري تضحيات مجيدة تفتخر بها الأجيال على مر العصور والأزمنة، وعندما يُذكر شهر ديسمبر يتبادر إلى أذهان الجزائريين تلك المظاهرات العارمة التي انطلقت في شهر ديسمبر سنة: 1960م، وكانت لها جملة من الآثار والانعكاسات العميقة على مسار الثورة الجزائرية المظفرة، فالمعروف أن مظاهرات11 ديسمبر1960م أكدت للعالم أجمع ذلك الارتباط الوثيق واللا محدود بين الشعب الجزائري وثورته المجيدة، وجعلته يُدرك مدى تصميم الشعب الجزائري على استعادة حريته المغتصبة، واسترجاع سيادته المنتهكة من قبل الاستدمار الفرنسي.
ستظل مظاهرات11ديسمبر1960م رمزاً من رموز الاعتزاز والافتخار بمنجزات وتضحيات الأمة الجزائرية العظيمة،وبما قدمته من تضحيات جبارة وغالية في سبيل استعادة السيادة لوطننا العزيز، فلا يختلف اثنان في أن مظاهرات ديسمبر1960م هي واحدة من المناسبات التي ستبقى وعلى مر الزمن من الوقفات التاريخية المتميزة والجديرة بالإشادة والتنويه، حيث إنها تجلو وبكل وضوح مسيرة نضال وكفاح ودأب وصبر الشعب الجزائري، ولا ريب في أنها تعتبر منبعاً عميقاً تُستمد منه العبر والدروس، وتُستخلص منه جملة من الرؤى والأفكار والفوائد الجمة.
يجمع المؤرخون على أهمية مظاهرات 11ديسمبر1960م في مسار الثورة الجزائرية، التي نجحت في إقناع العالم بعدالة القضية الجزائرية، وأكدت عزم الشعب الجزائري على استرجاع وطنه المغتصب، إن«11 ديسمبر1960م محطة أخرى أثبت من خلالها الشعب الجزائري قوته اللا متناهية وكفاحه الباسل وتلاحمه مع جبهة وجيش التحرير الوطني، من أجل هدف واحد هو الاستقلال، وهكذا أحبط بوعيه وتفطنه أطماع الاستعمار وإستراتيجية ديغول ومخططاته الساعية في حقيقتها إلى فصل الشعب عن الثورة من خلال شعاره الوهمي (الجزائر فرنسية)، مظاهرات 11ديسمبر1960م برهنت للعالم أجمع عن اقتناع الجزائريين دون استثناء بعدالة قضيتهم وبعزمهم على المضي قدماً والتضحية بكل نفيس من أجل استرجاع حقهم الذي اغتصبه المستعمر بالقوة والباطل» .
أضواء على وقائعها
تجمع مجمل الدراسات وشهادات المجاهدين الذين عاشوا يوم: 11 ديسمبر 1960م على أنه كان يوماً مميزاً، ارتوت فيه هذه الأرض الطاهرة بدماء آلاف الشهداء الذين خرجوا إحقاقاً للحق، ودفاعاً عن وطنهم المفدى «ففي يوم:09 ديسمبر 1960م حدث الانفجار،فقد تحركت جماهير بلكور تلقائياً، وفي بداية التحرك كانت تدافع عن نفسها وهي تشاهد الجرائم التي ترتكب من قبل المستوطنين الذين ظلوا يرتكبون الفظائع دون عقاب أو ردع، وفي يوم: 10 ديسمبر1960م تحركت جميع الأحياء بالعاصمة، فسرعان ما ظهر أثر التنظيم المحكم في تلك المظاهرات، وعينت لجنة تنظيم في كل حي، وقد ساهمت المرأة الجزائرية بشكل فاعل وبكيفية خارقة في تلك المظاهرات، حيث خرجت المرأة الجزائرية، وكانت أكثر جرأة وإقداماً وتحدياً للعدو، ففي ساحة بلكور قامت امرأة جزائرية بانتزاع العلم الجزائري من أحد الشبان الجزائريين، كونها لاحظت أنه لم يرفعه عالياً كما يجب، وأنه لم يكن يركض بشكل قوي، واندفعت تجري بالعلم حتى أصبحت في صدارة المظاهرة، وقد سعى الشباب الجزائري الذي شارك في المظاهرات إلى الاتصال بالصحافيين الذين كانوا يقومون بتغطية الحدث، ويحثونهم على ضرورة نقل الأحداث على حقيقتها، والتي تبرز تلاحم الشعب الجزائري وبكل قوة مع قضيته العادلة، وقد كانوا يرددون نريد الحرية ونريد الاستقلال، وقد تركت القوات الفرنسية المتظاهرين الفرنسيين يفعلون ما يشاؤون في حين قابلت مظاهرات الجزائريين بالتقتيل والتنكيل وارتكاب الجرائم الفظيعة، وعند حلول الليل من يوم العاشر من ديسمبر1960م كان كل شيء يدل على أن الهدوء قد عاد إلى نصابه، لكن ما أن أصبح يوم: 11 ديسمبر حتى تعالت الزغاريد من أعالي بلكور، وفي المدينة ترددت الأصداء من حي إلى آخر، فخرج السكان عن بكرة أبيهم إلى الشوارع في مظاهرات عارمة لم تشهد البلاد لها مثيلاً من قبل، واتسعت لتشمل الكثير من المدن مثل وهران وعنابة، وقد سقط على إثرها العديد من أبناء الشعب برصاص الجيش الفرنسي وجنود المظلات ورجال كتائب القمع وغيرها من الوحدات الفرنسية المسلحة، وقد اضطر الجنرال ديغول إلى اختصار زيارته إلى الجزائر وعاد إلى باريس مصرحاً بأن تلك الزيارة مكنته من الاطلاع على الأوضاع، وقد تحدثت البيانات الرسمية عن مقتل 96 شخصاً في الجزائر العاصمة، و18 في وهران و28 في عنابة، وهو رقم بعيد عن الأرقام الحقيقية للضحايا، خصوصاً أولئك الذين لفظوا أنفاسهم تحت التعذيب على أيدي رجال المظلات بعد إلقاء القبض عليهم، ودفنوا في مقابر جماعية، وقد وصفت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على لسان رئيسها (فرحات عباس) هذه المظاهرات بأنها درس رهيب لدعاة (التهدئة) المتخلفين عن عصرهم، الذين ما زالوا يحلمون بخرافة فصل شعبنا عن جيشه وحكومته، ولقد تحدث الشعب وقال كلمته، وتحدث ديغول في خطاب متلفز بتاريخ: 20 ديسمبر1960م أن جزائر الغد ستكون إذاً جزائرية».
يقدم المؤرخ الراحل الدكتور يحيى بوعزيز-رحمه الله- وصفاً دقيقاً لتلك المظاهرات، حيث يقول: «لقد انتظمت تلك المظاهرات في معظم المدن الجزائرية، وبخاصة الجزائر العاصمة، ووهران، وسيدي بلعباس، والأصنام، وشرشال، وتيبازة، والبليدة، وبجاية، وقسنطينة، وعنابة، واستمرت من يوم: 10 إلى يوم: 16 ديسمبر 1960م، ولم تتوقف إلا عندما وجهت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية نداءً إلى الشعب الجزائري لإيقافها، بعد أن وصلت إلى الغرض المطلوب، وحققت ما كان مرجواً من ورائها، وقد اتسمت تلك المظاهرات بالعنف والشدة بصورة خاصة في مدينة وهران، وفي أحياء مدينة الجزائر مثل بلكور، والحراش، وصالامبي (المدنية حالياً) والقصبة، وحمل السكان خلالها الأعلام الوطنية، ونادوا بشعارات تحيا الجزائر، ويسقط الاستعمار، تحيا جبهة التحرير الوطني، الاستقلال للجزائر، واندفع الرجال والأطفال والنساء إلى التظاهر متحدين الدبابات والرشاشات والقنابل، ورسم الجرحى بدمائهم الأعلام الوطنية، وشعارات الاستقلال والحرية، ولعب اليهود دوراً بارزاً في الإرهاب والاعتداء على المقدسات الإسلامية كالمساجد.
وكنموذج لهذه المظاهرات نورد وصفاً مصغراً لبعض أحداثها في مدينة وهران كما أوردته جريدة المجاهد اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني آنذاك بعد ثلاثة أيام من توقفها: (انطلقت المظاهرات يوم 10 ديسمبر، واصطدمت بوحدات من الجيش الفرنسي التي منعتها من الدخول إلى الأحياء الأوروبية، وفي يوم 11 استأنف الفرنسيون مظاهراتهم على الساعة التاسعة والنصف، فتوجهوا إلى مبنى إدارة الكهرباء والغاز، ثم إلى إدارة المالية، وهم يهتفون بشعارات: الجزائر فرنسية ودوغول على المشنقة، وبعد ذلك توجهوا إلى مقر إدارة جريدة وهران الجمهورية الموالية لديغول وحطموا واجهتها الزجاجية، وحاولوا مهاجمة مبنى رجال الدرك، واستمروا في هيجانهم حتى الساعة الواحدة بعد الظهر دون أن تتدخل فرق الأمن ضدهم، وعندئذ حدث ما لم يكن في حسبانهم، فقد انطلقت مظاهرات الجزائريين كالسيل الجارف من الأحياء العربية تهتف باستقلال الجزائر وعروبتها، واتجهت إلى الأحياء الأوروبية وحاول بعض الأوروبيين اعتراضها بسيارته فداس جزائرياً وقتله، وجرح آخرين، وتحركت قوات فرنسية ضد الجزائريين الذين أخذوا ينزلون إلى الميدان، يتلاحقون بسرعة من مختلف الجهات والأحياء واستعانت بالدبابات والمصفحات والرشاشات، والقنابل، وروى شهود عيان آنذاك بأن الجزائريين يلقفون القنابل في الهواء ويعيدونها إلى العدو لتنفجر في جموعه وتقتل الكثير منهم، وشهد حي البلانتور- سي الصادق حالياً-حوادث مهولة في هذا اليوم دامت حتى السادسة مساءً، واستمرت القوات الفرنسية في إطلاق النار على الجزائريين حتى الساعة الثامنة بعد ذلك.
وفي يوم 12/12 استأنف سكان مدينة وهران مظاهراتهم الصاخبة بشكل أقوى وأعنف، ولم يقترب الأوروبيون من أحيائهم العربية، فضلاً عن اقتحامها، وظل الجزائريون يهتفون بعروبة الجزائر وإسلامها، واستقلالها، واكتفى الأوروبيون بالتظاهر داخل أحيائهم فقط ولمدة محدودة بعد أن تأكدوا من عجزهم عن المواجهة، وقامت القوات الاستعمارية بمحاصرة الأحياء العربية وسكانها بالأسلاك الشائكة، وغلق المسالك والطرقات بالحواجز، ودأبت على قذف الجموع الجزائرية بالقنابل اليدوية، والرشاشات لمحاولة تفريقها، وبقيت هذه المظاهرات تتجدد يوميا حتى يوم: 16، وتكونت في وهران منظمة فرنسية إرهابية قتلت عدداً من الجزائريين في أماكن متفرقة، خنقاً بالأسلاك الكهربائية حتى بعد أن توقفت المظاهرات».
وينبه الباحث الدكتور محمد قنطاري إلى الكثير من المغالطات التي وقعت في التأريخ لهذا اليوم الخالد في التاريخ الجزائري، حيث يقول: «وحسب المصادر والوثائق والصور والأشرطة التلفزيونية والشهود…وتصحيحاً للتاريخ، وما نُشر وينشر وما قيل ويقال عن مظاهرات11 ديسمبر 1960م في تحديد هذا التاريخ لزيارة ديغول للجزائر وقيام المظاهرات الجزائرية ضده وضد الأوروبيين المستعمرين أن بداية نقطة محطة ترحال الجنرال ديغول للجزائر كانت في مدينة عين تموشنت عمالة وهران في 9 ديسمبر 1960 والتي كان يبلغ عدد سكانها آنذاك 9000 أوروبي من كبار المعمرين و25000 مواطن من الجزائريين الفقراء والفلاحين، وحل الجنرال ديغول في يوم ممطر، واستقبلته جماهير شعبية من الأوروبيين الذين استقدموا معهم عمال وفلاحي المزارع: نسبة كبيرة منهم من اليد العاملة المغربية لتحية ديغول، ونداء (الجزائر فرنسية) لكن عكس ذلك عندما وصلوا إلى عين تموشنت اندمجوا مع إخوانهم الجزائريين، وشكلوا قوة كبيرة من الجماهير الشعبية التي استقبلت ديغول، وهي تخفي له وللمعمرين المفاجأة…استقبله المتطرفون في بداية الأمر بشعارات ولافتات كتب عليها (الجزائر فرنسية)يسقط ديغول، وهو يسير أي ديغول في الشارع الوطني وسط الهتافات والأطفال والنساء تطل من النوافذ تهتف هي الأخرى بالجزائر فرنسية، يسقط ديغول، يسقط العرب…وبتحضير من القيادة الثورية لجبهة وجيش التحرير الوطني ومن المناضلين فجأة ظهرت لافتات الجزائر جزائرية-أطلقوا سرح بن بلة-والأعلام الجزائرية ترفرف في الأيدي والنساء يزغردن تتبعها عدة هتافات من أفواه الجزائريين والجزائريات: (تحيا جبهة التحرير الوطني) (يحيا جيش التحرير الوطني) (تحيا الجزائر جزائرية-الوحدة الجزائرية الشعبية والترابية-الصحراء جزائرية-لا لتقسيم الجزائر…)، وغيرها من الشعارات، وكان إلى جانب ديغول الجنرال كريبان، والجنرال جون موران، وقد أجرى ديغول بدار بلدية عين تموشنت حديثاً مع أعضاء المجلس البلدي، ثم فيما بعد حديثاً مع140 ضابطاً قائلاً: (ستكون الجزائر جديدة،ويجب علينا أن نساعدها لتكون جديدة فعلاً..وإلا كل شيء انقطع بينها وبين فرنسا وللجيش دور كبير ولا يجب أن تسير إلى الأسوأ كما وقع في الفيتنام، فالعمل هنا في الميدان أمام الجماهير، للإطلاع ومعرفة الحقيقة التي يعيشها ويعاني منها الشعب وجيشنا كان ضد الثوار(الفلاقة). لقد لعبتم وتلعبون دوراً محترماً فيما يخص التضامن، ثم قال: الجزائر في طريق تغيير نفسها وشخصيتها من يوم إلى آخر، شخصية الجزائر تبرز للوجود في الجزائر جزائرية، وهناك شرط لتنمية الجزائر لصالح أبنائها: الأول: السلام وهو ما نسعى إليه للجزائر الأخوية، والثاني: التعاون بين الجانبين العربي والفرنسي وللجميع نفس الحقوق والواجبات).
ثم خرج الجنرال ديغول من دار البلدية واتجه مرة أخرى نحو الجماهير، يصافحها ويناقشها في السلم والسلام بالجزائر، والتعايش السلمي بين الجميع، مع احترام الشخصية وتقرير المصير على حد قوله، وكان رد الجزائريين المتظاهرين الذين تغلبوا على الفرنسيين في العدد واستعمال العنف (تحيا الجزائر جزائرية-النصر أو الاستشهاد، يسقط الاستعمار-نموت لتحيا الجزائر حرة مستقلة…) والأعلام الجزائرية ترفرف في وجه الرئيس الفرنسي وجنرالاته وضباطه المرافقين له، واستخدم المتظاهرون الفرنسيون الذين تعززهم القوات البوليسية القوة ضد الجزائريين ووقعت معارك ومواجهات دامية وفرقت المظاهرات بالقوة وسقط في الميدان عدة شهداء وجرحى… ».
خصصت المجاهدة مزياني مداني لويزة في كتابها «مذكرات امرأة عاشت الثورة» حيزاً لا بأس به للحديث عن مظاهرات11ديسمبر1960م، فتطرقت في البدء إلى الخلفيات التي سبقت تلك المظاهرات، حيث نبهت إلى أنه كان لموقف ديغول من المحادثات الأولى بين الجزائر وفرنسا وتصريحاته بأن الجزائر لابد من بقائها في اتحاد مع فرنسا جملة من الآثار التي شجعت الكثير من المتطرفين الذين يصرون على بقاء الجزائر فرنسية على القيام بالمظاهرات والاحتجاجات، وتذكر بأن من قاد الفاشية الاستعمارية هو (لاقيار) الذي سبق أن ارتكب الكثير من الجرائم الفظيعة في شهر فيفري سنة: 1960م، من تخريب وتقتيل، وتصف المجاهدة تلك المظاهرات الخالدة بقولها: «نعم فلم تكد تنتهي هذه السنة: 1960م حتى انفجر الوضع بالقطر الجزائري وثارت ثائرة الشعب، فحطم أول قيد كان يربطه بالاستعمار، منذ قامت الثورة الجزائرية، حطم هذا القيد الثقيل، وانتفض معبراً عن رأيه جهراً بصراحة دون خشية أو خوف تلك هي مظاهرات11ديسمبر1960م، حيث قام الشعب في كل أرجاء الوطن (الجزائر)، وكأنه على موعد، والحق أنه ليس على موعد إلا موعد التضامن والاتحاد بين الشعب الجزائري تحت ظلال ثورته المجيدة، قام بالتصدي للعدوان والحقد الفاشي، والاستعمار الغاشم بالتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الحرية والكرامة للجزائر الغالية ولشعبها الأبي…
في ليلة ممطرة باردة من ليالي ديسمبر وهي: 10 ديسمبر1960م سمعت ليلاً الزغاريد من قلب حي (سالم باي) الذي بدأت منه المظاهرات، مظاهرات11 ديسمبر1960م، فقيل إنها الحرية…ولكن هل الحرية تأتي هكذا فجأة؟ وبدون مقدمات؟ وخصوصاً ونحن في نكسة من محاولات أول محادثات تقرير المصير والوصول إلى السلم، هكذا غير ممكن؟ كان هذا التساؤل الكبير العريض وهذه الدهشة الزائدة، هما اللذان أثارا فضول الكثير للخروج لفهم ما يجري، ولمعرفة سر تلك الزغاريد المتعالية، والزغاريد عنوان الفرح أو الجهاد، وكانت المفاجأة كبيرة، إذ تجمهرت بعض الجماعات من الشعب في الساحة الكبيرة، وهم يحملون بعض الشعارات كتحيا الجزائر والجزائر إسلامية، وهم يهتفون بكل قوة، وهذه الشعارات هي من المحرمات عند المستعمر، لو استطاع أن ينزعها من مخيلتهم ووجدانهم لفعل، وكان الناس يأتون من كل اتجاه وكل مكان بالحي بين متسائل ومندهش، يأتون ويحتشدون، ولكن سرعان ما حل موعد (حظر التجول) فتفرق الناس وباتوا في بيوتهم يحلمون، ويعدون العدة لتكرار ما حصل في اليوم التالي (أي الغد) فماذا يعدون يا ترى لاشيء سوى أعلامهم ولافتاتهم من قطع القماش التي تحمل مشاعرهم الصادقة، وإيمانهم بها، والتحدي للواقع المؤلم، والتصدي للمستعمر الظالم…
-فما هو سر هذه النبضة؟ وما هو السر في إشعال هذه المظاهرات؟ إنه الكبت والقهر والألم والتحدي للظرف وما يمليه، عوامل تجمعت وسببت هذا الانفجار العظيم، وكانت هي الأسباب الحقيقية والجوهرية، وكل ما عداها فهي مسببات لا أكثر…
وفي الصباح تحركت الجموع من الساحة الكبيرة إلى الجهات الأخرى من الحي (كديار المحصول) وباقي الجهات الأخرى في11 ديسمبر1960م، ومنها إلى (حي بلكور) بينما أخذت تعم المظاهرات البلاد كلها شرقها وغربها وجنوبها… فالشعب كله عبر والشعب كله كبر الله أكبر، وكانت هذه المظاهرات بمثابة البلسم الشافي للجزائر الجريحة، وكانت داعمة وبكل قوة للكفاح البطولي الذي يخوضه المجاهدون منذ ست سنوات، وأكدت تلك المظاهرات على إرادة الشعب في نيل استقلاله وحريته وعزمه على المضي قدماً إلى الأمام حتى النصر…
ولا يمكن نسيان صباح: 11ديسمبر1960م، وأنا وسط جموع المتظاهرين الذين يجوبون الشوارع ويهتفون: تحيا الجزائر-الجزائر جزائرية، الجزائر مسلمة، تحيا جبهة وجيش التحرير الجزائري يحيا فرحات عباس وأحمد بن بلة، وقد كتب على كل السيارات –دون استثناء FLN كما كتبت على الجدران وعلى الأرض، وفوق أقواس النصر وعلى الرايات البيضاء الخفاقة في السماء، واندفع الشعب غاضباً هادراً، يحرق سيارات العدو ويدمر متاجره، إلا من ثبت عنه أنه محايد، وانطلقت ألسنة اللهب حمراء تأكل تلك السيارات، وكأنها تأكل العدو أكلاً، واعتلى الشباب والشابات أسقف السيارات وهم يحملون الأعلام واللافتات ويهتفون باستقلال الجزائر، كما انتشرت العبارات الوطنية في كل مكان،فكان المتجول في (حي سالم باي) لا يصدق أنه في هذا الحي الذي يحاصره المستعمر وجنوده حصاراً شديداً، كل الناس خرجت، ومن لم يخرج-من المرضى مثلاً-كانوا يهتفون من الشرفات وكانت النساء يقمن برمي زجاجات العطر، وعلب السكر وذلك لحاجة الناس إليها وكذلك الأعلام من النوافذ، وقد خيطت في وقتها واستعملت لهذا الغرض في هذا اليوم المشهود، وهناك من يجول بين المتظاهرين يسقي العطشى ويروي ظمأهم-ظمأ اللهب المقدس…، كانت الفرحة عارمة، وكان رد المستعمر عنيفاً ومبيداً، وهو إطلاق النار على المتظاهرين في كل مكان، فسقط الشهداء والجرحى…
ولا يمكنني أن أنسى أبداً يومها الدبابات خلفنا والجنود يحاصروننا في (ديار المحصول)، وأخذوا يطلقون النار، وكنت لحظتها أنتظر وأرقب أية رصاصة تخترق صدري أو رأسي وأنا أهتف وأنا أصرخ وبكل قوة (الجزائر عربية)، وفي غفلة مني التفت فوجدتني وبعض الأفراد فقط، وقد تفرق شمل المتظاهرين ولم يكن وراءنا إلا المدافع المنصوبة على الدبابات، أخذتني بعدها رجلاي إلى بيت من بيوت الحي، حيث استقبلتني سيدة فسقتني الماء، وأسعفتني من شدة تعبي، تابعت طريقي بعد ذلك مع الجموع إلى (حي بلكور) وكان حقد المستعمرين كبيراً، فقد كانوا يرمون المتظاهرين بأصص الزهر الثقيلة قصد قتلهم من الشرفات وهم يختفون في بيوتهم، ويصمون آذانهم عن الزغاريد المرعدة التي كانت تزيد من ثبات المتظاهرين، وتقلق المحتل الغاشم…
والتقت الملحمة في (حي بلكور) وارتفع العلم الجزائري خفاقاً في إحدى بناياته الحكومية في شارع ليون (بلوزداد) حالياً وسقط الكثير قتلى وجرحى، واستعملت السيارات الشعبية لحمل الجرحى إلى مستشفى (مصطفى باشا) وإلى (المدارس العربية الحرة) وإلى المساجد وبعض البيوت التي تحولت أثناء هذه الملحمة إلى مراكز لعلاج الإصابات(ودامت هذه المظاهرات ما يقرب من أسبوع في أنحاء الجزائر، أما في وهران فكانت بداية لسلسلة من المظاهرات لم تنقطع إلا بعد مدة، وبقيت آثار التخريب ماثلة أمام العدو الغاشم أكثر من سنة…).
بدأ دفن الشهداء في اليوم التالي من بداية المظاهرات وسقوط الضحايا-شهداء مظاهرات11 ديسمبر1960م-ضحايا غدر المستعمر…بدأ في (سالم باي) و(القصبة) و(بلكور-الحراش-)و(العالية)، دفن شهداء المظاهرات التي هزت الدنيا بقوتها وشدتها وعدل مطالبها، ففي (سالم باي) بدأت النعوش تتهادى في السيارات الكبيرة مثنى وثلاث ورباع…تتبعها الجماهير الغفيرة حاملة الأعلام، وهاتفة بالجزائر الحرة طالبة الرحمة للشهداء من الله جلت قدرته، بينما الزغايد تشق عنان السماء…تلك الزغاريد التي تعطي المرء أكثر من معنى التصدي والتحدي والحرية و الإيمان العميق والتضحية، نعم تلك التضحية الغالية التي قدمها الشعب الجزائري مضحيا بفلذات أكباده، وعلى إثر سماع تلك الزغاريد يخرج الناس ليلتحقوا بركب جنائز الشهداء، ويا لها من مظاهرة والجماهير موعدهم المقبرة مقبرة (سالم باي)، وعند المقبرة تعلق الأعلام فوق بابها كما تعلق على بعض أغصان الأشجار، ويهتف المشيعون طويلاً، ويتبادلون كلمات التشجيع والتأبين…».

   
أهمية مظاهرات11ديسمبر1960م
يُقسم الدكتور محمد قنطاري نتائج مظاهرات 11 ديسمبر1960م إلى مستويين: المستوى الداخلي والخارجي، فعلى المستوى الداخلي «نتج عن المظاهرات خسائر فادحة في الأرواح تفاوتت تقديراتها وإحصائياتها المتضاربة بين الطرفين الجزائري والفرنسي: فالأرقام الجزائرية تقدر بأكثر من 800 شهيد عبر التراب الوطني خلال المظاهرات الأسبوعية، وأكثر من 1000 جريح، واعتقال أكثر من 1400 جزائري من النساء والصبيان والشيوخ، فقد أدت تلك المظاهرات إلى:
-إبراز الوحدة الوطنية الشعبية والترابية في وحدة الصف الوطني وراء قيادة جبهة وجيش التحرير الوطني وحكومته الناطق الرسمي باسمه.
-التحرر من عقدة الخوف والمجابهة مع القوات الفرنسية المتفوقة عدة وعدداً، والتحاق ضعاف النفس والمرتدين بصفوف الثورة…والتخلي عن الإدارة الفرنسية ومصالحها المدنية والعسكرية، واتضح للجميع من هو في صفوف الثورة ومن هو في صفوف العدو…
-أدت المظاهرات إلى انتقال المعارك الطاحنة والمواجهة مع قوات العدو في المدن والقرى لتخفيف الضغط على المجاهدين في الجبال والصحاري، وتفتيت القوات الفرنسية الأمر الذي أدى إلى تحطيم الأسطورة الفرنسية وترسانتها العسكرية المعززة بجنود وسلاح الحلف الأطلسي ومن المرتزقة واللفيف الأجنبي.
-تشديد وحدات جيش التحرير الوطني في الجبال والصحاري داخل المناطق وعلى الحدود معاركها وهجماتها على القوات الفرنسية ومصالحها الإستراتيجية والاقتصادية، وتكثيف العمليات الفدائية في القرى والمدن ضد المعمرين والعملاء، وقرر مجلس الوزراء الفرنسي اتخاذ الإجراءات التالية:
أ-منع أو حظر التجول في المدن الجزائرية التي عاشت وتعيش اضطرابات ومشادات وذلك من الساعة 10 ليلاً ومنع التجمعات التي تزيد عن 10 أشخاص.
ب- طرد 40 شخصاً من كبار الموظفين الفرنسيين من عملهم الذين دعموا وشاركوا ووجهوا الاضطرابات تلبية لنداء (جبهة الجزائر الفرنسية).
ج- تم غلق 63 متجراً لمدة أسبوعين نظراً لمشاركة أصحابها في الإضراب وتحريض الشعب ومخالفة القوانين بالجزائر العاصمة.
د- إلغاء كل المقابلات الرياضية إلى إشعار آخر…
هـ- حل (جبهة الجزائر الفرنسية) وكذلك (جبهة التحرير الوطنية للجزائر الفرنسية) التي تكونت في شهر جويلية 1960 التي تضم بعض الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة لليمين المتطرف.
وفي العالم الخارجي انعقدت الاجتماعات الشعبية والمنظمات الجماهيرية من الطلبة والعمال والنساء والفلاحين والتجار والموظفين والحرفيين والجمعيات والهيئات الثقافية والعلمية والدينية، والأحزاب السياسية وغيرها من الهيئات القومية الوطنية في مسيرات ومظاهرات وتجمعات وندوات عبر مدن وقرى العالم العربي في تضامن وتأييد للشعب الجزائري في كفاحه العادل، وحقه في الحرية والاستقلال لإعادة سيادته الكاملة على أرضه، كما تم استنكارهم لجرائم الحرب الفرنسية في الجزائر من تعذيب وتقتيل وسجن ونفي، وعلى سياسة الإبادة الجماعية للشعب الجزائري، والأرض المحروقة التي تتبعها فرنسا منذ سنوات طوال، وعلى كل ما يرمز للأصالة والشخصية العربية الإسلامية في الجزائر…، وعلى المستوى الدولي قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد انتهاء المناقشات يوم الأربعاء حول القضية الجزائرية بالمصادقة على لائحة الكتلة الآسيوية الإفريقية التي تنص على إشراف الأمم المتحدة ومراقبتها لتقرير المصير في الجزائر، وقد كان التصويت على اللائحة كفقرات تم التصويت على مجموعها، إذ أحرزت اللائحة العامة للقضية الجزائرية على80 صوتاً وامتناع 8 دول معارضة حيث تنص الفقرة الأولى من اللائحة على أن الأمم المتحدة (تعترف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بحرية وحقه في الاستقلال…)فصوت لصالح الفقرة 83 دولة وامتنعت 10 دول معارضة.
أما الفقرة الثانية فتنص بالضرورة الملحة على إعطاء الضمانات اللازمة وفعالية التأكيد من أن حق تقرير المصير سيطبق بحرية ونجاح وعدالة وتؤكد على احترام التراب الجزائري وسلامته، وصوتت لفائدتها 73 دولة مع امتناع 20 دولة ودون معارضة.
في تقييمه لأهمية مظاهرات11 ديسمبر1960م يذهب الدكتور يحيى بوعزيز إلى أن مظاهرات ديسمبر1960م كانت لها نتائج بالغة الأهمية، إذ كانت بمثابة بعث جديد للمقاومة الشعبية الجماهيرية في المدن والحواضر الجزائرية التي كان الاستعمار الفرنسي يدعي أنه قضى عليها تماماً، وأن الشعب الجزائري أصبح صديقاً للجيش الفرنسي الذي قام بتصفية فرق جيش التحرير الجزائري، فقد كانت دهشة الإدارة الاستعمارية كبيرة وشديدة عندما شاهدت ذلك الفيضان الشعبي وهو يكتسح الساحات ويرفع الأعلام الجزائرية، وتتعالى في وسطه الزغاريد، والجميع ينادي بحياة الجزائر، وسقوط الاستعمار الغاشم، وحياة الثورة الجزائرية وجبهة التحرير الوطني.
بيد أن دهشة ديغول كانت أشد وأبلغ، فقد اتضح له من خلال ما شاهده وعاينه بنفسه أن التقارير التي كانت تصله مزيفة وغير صحيحة، حيث كانت تصف له خلود الشعب وسكينته، وموت جبهة التحرير الوطني في أوساط الشعب الجزائري، فقد تأكد أن السلطات الاستعمارية في الجزائر كانت تكذب عليه وتغالطه، وتصور له انهزاماتها على أنها انتصارات، وهذا ما أشارت إليه إحدى الصحف البريطانية التي ورد فيها أن: (ديغول فهم الآن أنه كان يتصور وجود قوة للأوروبيين أكثر مما هي في الواقع، كما كان يتصور أن قوة الجزائريين هي أقل مما هي عليه في الواقع).
وقد عبر ديغول عن دهشته الكبيرة بقوله: (إن ما رأيته وسمعته هو واقع يجب أن نقبله، ويجب أن نزن به المشكلة الجزائرية بميزان صحيح). ولذلك أسرع وقطع رحلته، وعاد إلى باريس ليبدأ مرحلة جديدة وأخيرة، وهي الاعتراف بجبهة التحرير الجزائرية كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري، كما أدرك ضرورة الدخول معها في مفاوضات مباشرة التي انتهت باعترافه مرغماً باستقلال الجزائر وحريتها الكاملة، فقد تأكد الفرنسيون أن نهايتهم بدأت،وأن رحيلهم عن الجزائر هو أمر لا ريب فيه،وهذا ما أشارت إليه صحيفة لوموند يوم (14 ديسمبر 1960م) على لسان أحد الفرنسيين الذي قال: (الآن لم يبق لنا إلا أن نحاول المحافظة على الأمن ريثما نحزم أمتعتنا ونركب الباخرة)، فرد عليه آخر بقوله: (لقد دقت ساعة الحقيقة…).
*كلية الآداب -جامعة عنابة-

 

 

د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة*/

About Author

%d مدونون معجبون بهذه: